
النوم وضغط الدم: تأثيرات على الذاكرة واحتمال الإصابة بالخرف
يمتلك الدماغ نظاماً ذكياً يُعرف بالنظام الغليمفاوي. يضخّ هذا النظام سائلاً شفافاً يُسمّى السائل الدماغيّ الشوكيّ داخل أنسجة الدماغ. يعمل هذا السائل مثل ماء غسيل: يدخل ليلتقط الأوساخ والمواد الضارّة، ثم يُخرجها من الدماغ.
هذه الأوساخ ليست تراباً، بل بروتيناتٍ وفضلاتٍ تتراكم مع الوقت، مثل البروتينات المرتبطة بمرض ألزهايمر. إذا لم تُنظَّف هذه الفضلات، يمكن أن تؤذي خلايا الدماغ وتؤدّي إلى مشكلاتٍ في الذاكرة والتفكير، ثم إلى الخرف.
في دراسةٍ جديدةٍ نُشرت يوم 23 أكتوبر/تشرين الأوّل في مجلة The Journal of the Alzheimer's Association، أشار باحثون إلى أنّ ضعف نظام التنظيف المسؤول عن طرد السموم من الدماغ يمكن أن يزيد خطر الإصابة بالخرف في سنٍّ متقدّمة، وأنّ عوامل معروفة، مثل ارتفاع ضغط الدم والنوم غير الجيّد، قد تُضعفه.
اعتمدت الدراسة على تحليل صورٍ بالرنين المغناطيسي لنحو 40 ألف شخصٍ مسجّلين في مشروع "يو كيه بايو بنك" في المملكة المتحدة، ثم متابعة حالتهم الصحيّة لسنواتٍ لاحقة لمعرفة من طوّر أعراض الخرف مع الوقت.
وجد الباحثون أنّ الأشخاص الذين كان تدفّق السائل الدماغيّ الشوكيّ في أدمغتهم أضعف من الطبيعيّ عند الفحص الأوّلي، كانوا أكثر عرضةً للإصابة بالخرف خلال السنوات العشر التالية.
بمعنى آخر، يُمكن رصد إشاراتٍ مبكرةٍ جدّاً في الدماغ تشير إلى خطرٍ أعلى للإصابة بالخرف لاحقاً.
يقول المؤلّف الرئيسيّ للدراسة هيو ماركوس (Hugh Markus)، أستاذ طبّ السكتة الدماغيّة في جامعة كامبريدج، إنّ هذه النتيجة قد تُفسّر لماذا ترتبط بعض العوامل الحياتيّة، مثل ضغط الدم المرتفع وقِلّة النوم الجيّد، بزيادة احتمالات تدهور الذاكرة والتفكير مع التقدّم في العمر.
"تُسلّط الدراسة الضوء على صلةٍ مباشرةٍ بين صحّة الأوعية الدمويّة وصحّة الدماغ"، يضيف ماركوس في تصريحاتٍ لـ"العربي الجديد".
يوضح أنّ عوامل مثل ارتفاع ضغط الدم والتدخين لا ترفع فقط خطر السكتة الدماغيّة، بل قد تُعطّل أيضاً آليّة تنظيف الدماغ من السموم، ما يُسرّع التدهور المعرفيّ.
الخرف ليس حالةً واحدة، بل مجموعة أمراضٍ وأسبابٍ تؤدّي إلى فقدان الذاكرة والقدرة على التفكير واتخاذ القرار؛ أشهرها مرض ألزهايمر، الذي يتميّز بتراكم موادّ ضارّة داخل المخ، مثل لويحات الأميلويد وتشابكات بروتين تاو.
وهناك أيضاً الخرف الوعائيّ الذي ينتج عن ضعف تروية الدماغ بالدم بسبب تلف الأوعية الدمويّة الصغيرة داخله.
ترى الدراسة أنّ الضرر في الأوعية الدمويّة الدقيقة في الدماغ يمكن أن تكون له ضربتان متزامنتان: الأولى أنّه يقلّل وصول الأكسجين والغذاء إلى خلايا الدماغ، والثانية أنّه يُضعف حركة السائل المسؤول عن التنظيف الداخليّ للدماغ،
وبالتالي يسمح بتراكم البروتينات السامّة على نحوٍ أسرع.
يوضح ماركوس أنّ الدراسة استخدمت خوارزميّاتٍ تعتمد على الذكاء الاصطناعيّ من أجل استخراج بصماتٍ حيويّة من صور الرنين المغناطيسي.
هذه البصمات تقيس، من بين أمورٍ أخرى، حركة الماء في القنوات الدقيقة المحيطة بالأوعية الدمويّة، وحجم المنطقة المسؤولة عن إنتاج السائل الدماغيّ الشوكيّ، وسرعة دخول السائل إلى الدماغ. ثمّ قارن الباحثون هذه القياسات بمعدّلات حدوث الخرف لاحقاً.
 
وفق الباحثين، أظهرت النتائج أنّ الخطر لم يكن مرتبطاً بعاملٍ واحدٍ فقط، بل بمنظومةٍ كاملة: ضغط الدم، وصحّة الأوعية الدقيقة في الدماغ، وجودة النوم، وكفاءة إزالة المخلّفات من الدماغ. 
هذه الصورة المترابطة، بحسب الفريق، تساعد على تفسير سبب اختلاف تطوّر الخرف من شخصٍ لآخر، حتى بين أشخاصٍ في العمر نفسه.
تشير النتائج أيضاً إلى أنّ الخطر ليس حتميّاً بالكامل، بل يمكن خفضه. يقول ماركوس إنّ ما لا يقلّ عن ربع حالات الخرف يمكن ربطها بعوامل معروفةٍ يمكن التدخّل فيها طبّياً وسلوكيّاً، مثل ضغط الدم المرتفع والتدخين.
"إذا كانت هذه العوامل تُضعف نظام تنظيف الدماغ، فهذا يعني أنّنا نستطيع أن نتدخّل مبكراً"، يضيف الباحث، مشيراً إلى أنّ التحكّم الجيّد في ضغط الدم وتشجيع الإقلاع عن التدخين قد يكونان وسيلتين مباشرتين لتقليل خطر الخرف مستقبلاً.
عاملٌ مهمّ آخر لفتت إليه الدراسة هو النوم؛ فالنظام الذي يُنظّف الدماغ يبدو أنشط أثناء النوم العميق، ما يعني أنّ النوم المتقطّع أو القصير جدّاً قد يُعيق عمليّة "التنظيف الليليّ" للدماغ ويسمح بتراكم الفضلات العصبيّة مع مرور الوقت.
ووفقاً للباحثين، قد يُفسّر هذا الرابط المعروف بين اضطراب النوم وارتفاع احتمال تراجع الذاكرة والانتباه مع العمر.
يرى الفريق البحثيّ أنّ هذه النتائج قد تفتح مسارين محتملين للوقاية والعلاج: الأوّل تحسين العوامل الحياتيّة مثل ضغط الدم، وصحّة القلب والأوعية، والنوم المنتظم؛
والثاني محاولة تطوير أدويةٍ جديدةٍ، أو إعادة توظيف أدويةٍ قائمةٍ، لدعم حركة السائل الدماغيّ الشوكيّ داخل الدماغ وتحسين قدرته على التخلّص من المواد السامّة.
 
				
 
											 
											 
											 
											 
											