ندوة أثيرت.. حيوانات الجزيرة العربية بين الوظيفة والمقدس
وعلان ناهضان بقرنين عظيمين يحيطان بشجرة الحياة، ويبدوان كأنهما خادمان تحت إمرة أم الآلهة "أثيرت"، المكتوب اسمها بخط المسند القديم في جنوب الجزيرة العربية، ودرّتها اليمن.
هذا التشكيل البصري هو شعار مجلة "أثيرت" نصف السنوية المحكمة المختصة بالجزيرة العربية القديمة التي يصدرها مركز حسن بن محمد وتنشرها دار بيرل الهولندية.
وللمصادفة يطابق الوعلان فكرة الندوة الذي افتتحت أمس في الدوحة بعنوان "الحيوانات في الجزيرة العربية القديمة"، واختتمت اليوم الأحد.
ثماني جلسات
ثماني جلسات على مدار يومين تُجمع دراساتها ضمن العدد المقبل من المجلة، والمشاركون من قطر، والسعودية، واليمن، والعراق، والأردن، والمغرب، وفرنسا، وإيطاليا، وألمانيا، والنمسا.
قام المؤتمر على اكتشافات جديدة من بادية الشام إلى اليمن، والأساس فيها مبني على أمر بالغ الأهمية، وهو علاقة الإنسان بالحيوانات منذ عصور ما قبل التاريخ إلى قبيل الإسلام، بحسب الآثاري الفلسطيني محمد مرقطن المختص في اللغات السامية، رئيس تحرير "أثيرت"، والمشرف العلمي على المؤتمر. و
أضاف أن الأبحاث المعروضة تنظر في علاقة الإنسان والحيوان من منظور أنثروبولوجي، وأثري وسيميائي، مبرزةً تنوع المقاربات بين النصوص السبئية، والنقوش الصخرية، والمكتشفات الأثرية الحديثة، والرموز الدينية والاجتماعية المتصلة بهذه العلاقة.
وثمة أمران في رأيه يمنحان المؤتمر مكانته العلمية، الأول تضمّنه 22 دراسة، والثاني تنوع الحضور العربي والأجنبي، وقد كان المؤتمر جسراً بينهما.
مصائد بعين الطائر
الشاشات الرقمية التي تستعمل في المحاضرات تنقل إلى جمهور المؤتمر صوراً من فوق، بعين الطائر، لما يمكن اعتباره أقدم شكل معماري في الجزيرة العربية، تلك المصائد الحجرية المذهلة، التي صار اسمها "الطائرات الورقية الصحراوية"، لأن الطيارين البريطانيين والفرنسيين رأوها تشبهه.
هذه "الطائرات" كانت قبل تسعة آلاف عام تنتظر الوعول، والغزلان، والمها. تناولت الباحثة السعودية منيرة المشوح أستاذة آثار ما قبل التاريخ في الجزيرة العربية، المنشآت الحجرية في محافظة العُلا من العصر الحجري الحديث حتى العصر البرونزي.
وطرحت خلاصات جديدة حول هذه المنشآت، من المستطيلات والمدافن والمسوّرات التي كانت أماكن لإقامة ممارسات طقوسية وصيد جماعي، وربما شكلت بدايات العمارة الطقوسية في الجزيرة العربية.
في العلا وحدها تمتد هذه الظاهرة على مساحة تقارب سبعة آلاف كيلومتر مربع، مما يعكس نمطاً من التنظيم الاجتماعي المبكر والقدرة على تنسيق النشاط الجماعي في بيئة قاحلة، على حد قولها.
في الحيز الجغرافي ذاته الذي تمثله السعودية اليوم، رافق حضور المؤتمر سعيد بن فايز أستاذ الحضارات واللغات السامية في بحثه "مقابر الخيل في الحضارة العربية القديمة"، معايناً علاقة الإنسان بالخيل ضمن المعتقدات الدينية والجنائزية في جنوب المملكة العربية السعودية.
استند بن فايز إلى نقوش ومكتشفات جديدة في قرية الفاو، مبيّناً كيف مثّلت الخيل رمزاً للبطولة والمكانة الاجتماعية، ودُفنت أحياناً مع أصحابها ضمن طقوس ما قبل الإسلام مزجت بين المادي والرمزي في تصور الخلود.
النقش الذي عرضه لنا حظي بنقاش خاص حول ذيوع دفن الحيوانات مع أصحابها فقال هنا إن مناطق أخرى في اليمن كانت تدفن الحيوانات في مقابر خاصة.
هذا يعني بحسبه، وجود تنوع في العلاقة بين البشر وحيواناتهم عن موتها، محكوماً بنوازع دينية أهمها الإيمان بحياة أخرى، مشيراً إلى أن الحصان المدفون مع صاحبه كان مع لجامه.
المخاطر والأمل
النمساوي أندريه غيغيريتش أستاذ الأنثروبولوجيا الاجتماعية في الجزيرة العربية قد ذهب إلى ضدين "المخاطر والأمل" وهو يقرأ سيرة الثعابين والإنسان في جنوب غرب الجزيرة العربية، والقيم الثقافية المرتبطة بأنواع معينة منها.
فعنده منهج أنثروبولوجي إثنوغرافي يرى دوراً للثعبان حارس مياه الينابيع، وكائناً حساساً لاقتراب المطر، ورمزاً في طقوس البلوغ لدى الذكور، ملاحظاً أن القرويين ينسبون إلى بعض أنواع الثعابين سمات خطيرة، لكنها تحمل في الوقت نفسه إشارات الأمل المقدس.
ومن ثم هو يربط بين تمثيلات الحيوان ومخاوف السكان من البيئة القاسية، مع تحليل كيفيات تحويل الخوف إلى منظومات رمزية تعبّر عن الأمل والحذر والهوية المحلية ضمن أنماط من العزلة الثقافية والاجتماعية.
عندما يقع الوعل في الحفرة فهو طريدة، وعندما ينقش في رحاب إلهه فهو رمز مقدس، وفق الإيطالي أنجيلو بوجينو فوساتي أستاذ دراسات ما قبل التاريخ،
مشيراً إلى أن رمزيته الدينية ارتبطت بإله القمر، نظراً إلى شكل قرنيه الهلالي، وأنّ تمثيله في وضعيات محددة (منتصب الرأس أو في مواجهة الكلاب) يعكس معاني الحماية والخصوبة والتجدّد.
لطالما كانت النعام موضوعاً للتعبير الفني. ذلك الطائر الذي لا يطير وظل منذ عصور ما قبل التاريخ يعيش في الأجزاء الجنوبية والوسطى والشمالية من شبه الجزيرة العربية حتى منتصف القرن الماضي متوافراً حين انقرض بفعل الصيد الجائر.
محمد عبابنة أستاذ الدراسات السامية تناول وجود هذا الطائر في بادية الشام في ضوء النقوش الصفائية والرسوم الصخرية المرافقة لها، كما ورد ذكرها في الشعر العربي القديم. تحتوي النقوش الصفائية على العديد من الشواهد التي تشير إلى النعام،
فقد ورد ذكرها في النقوش بأسماء مختلفة، وهناك أيضاً رسومات للنعام في مشاهد مختلفة، تظهر وهي ترعى مع حيوانات أخرى، مثل الغزلان والحمير البرية، بالإضافة إلى ظهورها بشكل كبير في مشاهد الصيد.
يكتسب تمثيل الحيوان في المعابد بعداً رمزياً يكشف عن العلاقة الجدلية بين الطبيعة والعبادة في جنوب الجزيرة العربية.
بحسب منير عربش مدير قسم الأبحاث في المركز الوطني الفرنسي للبحث العلمي تتميز معابد مدن الجوف في اليمن باحتوائها على تماثيل نباتات، وفاكهة وحيوانات لها رموزها الدينية، كالثور، والأسد، والوعل، والنعام، تعود إلى ما بين القرنين الثامن والسادس قبل الميلاد.
جيش خبراء
تفتح كل دراسة وكل مناقشة باباً على مباحث كانت في هذه المنطقة حتى وقت قريب مُراوِحةً بين المغلق والمهمل، حتى بات انكشاف الكنز مرة واحدة محتاجاً إلى جيش من الخبراء لقراءته وفك رموزه.
ففي السعودية كما أوضحت منيرة المشوح تضاعف عدد الكليات التي تدرّس تخصص الآثار بسبب توافر الإقبال على هذا الحقل المعرفي.