
احتجاجات مطلبية في سورية وسط انهيار معيشي
الرأي الثالث -وكالات
تشهد سورية موجة احتجاجات مطلبية غير مسبوقة في عدة محافظات منذ سقوط نظام البعث، تتصدرها مطالب معيشية مرتبطة بانقطاع رواتب المتقاعدين المدنيين والعسكريين، وأخرى تطالب بإعادة النظر في فصل مئات العاملين في أجهزة وقطاعات الدولة وأخرى مطالبة بتحسين الخدمات.
تتحدث أوساط حكومية عن "عطالة مقنعة" أو ما سمتها "العطالة الشبح"، في إشارة إلى موظفين لا يؤدّون مهامهم بشكل فعلي، بينما تؤكد من ناحية أخرى أن خفض النفقات يتطلب قرارات صعبة، كفصل موظفين في قطاعات تعاني من شح الموارد لإعادة هيكلة مؤسسات الدولة ومحاربة الترهل الوظيفي.
لكن الواقع يُظهر أن آلاف العاملين في القطاع العام، بخاصة في المؤسسات شبه المُتعطلة بسبب الحرب والعقوبات الدولية، باتوا أمام خيارين: قبول فقدان وظائفهم بشكل دائم، أو الخروج بتظاهرات ضد هذه القرارات.
يرى الناشط محمد عسكر من العاصمة دمشق أنه "لا يمكن إنكار أن الاحتجاجات تعكس أزمة حقيقية، لكنها أيضاً تكشف تناقضات المجتمع السوري.. نعم القرارات تعتبر مجحفة حقاً، لكن جزءاً من المحتجين هم من الذين استفادوا من الفساد سابقاً، والآن يدفعون الثمن.. بينما هذا لا يلغي معاناتهم، ويطرح سؤالاً: هل يمكن بناء حركة احتجاجية عابرة للانقسامات السياسية ينال فيها الجميع حقهم في العيش بكرامة؟".
بينما يرى الناشط هاني عزام، وهو من أبناء محافظة السويداء، جنوبي البلاد، أن "الحديث عن شرعية المطالبة بحقوق أساسية كالغذاء والدواء والعيش الكريم من عدم شرعيته لكون المطالبين لم يشاركوا في احتجاجات المطالبة بإسقاط نظام الأسد، نوع من ازدواجية المعايير لدى من لا يراها شرعية".
متسائلاً: "هل يُشترط أن تكون مناضلاً سياسياً كي تطالب بإنقاذ أطفالك من الجوع؟".
ويضيف أن "نظام الأسد المخلوع حوَّل البلاد إلى سجن مفتوح، والمواطنين، بمن فيهم من صمتوا سابقاً، كانوا رهائن سياسات اقتصادية فاسدة".
ويتابع عزام أنّ "العامل الذي فقد راتبه بعد 17 عاماً من العمل، أو المُتقاعد الذي يُحرم من راتبه بعد 30 سنة من الخدمة، ليسوا مجرد أرقام في ملف حكومي.. هؤلاء ضحايا منظومة استخدمت الولاء السياسي كأداة للابتزاز، واليوم يرمى بهم إلى الشارع حين سقط المبتز".
ويقول إن "الصمت في السابق لا يُدان به الفرد، بل يُدان به النظام الذي أخاف الناس حتى من المطالبة بحقوقهم.. أما اتهام المحتجين بالانتهازية، فهو محاولة لتفريغ الاحتجاجات من مضمونها الإنساني".
وتعتبر فئة المتقاعدين من أكثر الفئات تضرراً، حيث يعاني الكثيرون من تأخر صرف الرواتب لشهور، أو خفضها بشكل تعسفي.
المتقاعد من مدينة حلب الذي عرّف نفسه باسم أبو أحمد، يصف وضعه بالقول: "راتبي لم يعد يكفي لشراء الأدوية، فكيف بالغذاء؟ الحكومة تتعامل معنا كأرقام، لا كبشر".
أما العمال الذين يواجهون خطر الفصل، فيعيشون حالة من القلق الوجودي. وتقول سميرة، عاملة في مؤسسة حكومية في دمشق: "الإجازة بدون راتب تعني الموت جوعاً.. ليس لدينا مدخرات، والوظائف البديلة شبه معدومة".
في المقابل بررت الحكومة السورية المؤقتة، الاثنين الماضي، قراراتها بإعطاء المئات من العمال إجازات براتب أو بدون، بأن ذلك يأتي في سياق حزمة إصلاحات اقتصادية وإدارية جذرية تهدف إلى مواجهة التحديات الهيكلية التي تعاني منها الدولة،
وفي سياق الجهود الحكومية لمعالجة الأزمات الاقتصادية الطاحنة، وسط تفاؤل حذر بإمكانية تحقيق انتعاش تدريجي يعزز فرص العمل ويحد من الهدر المالي. جاء ذلك في تصريحات مُشتركة لثلاثة وزراء لوكالة رويترز.
وأكد وزير المالية السوري محمد أبا زيد أن سجلات العاملين في الدولة تتضمن 400 ألف اسم "شبح" مشيراً إلى أن إزالة هذه الأسماء "ستوفر موارد كبيرة"، ومعرباً عن صدمته من حجم الفساد الذي يفوق التوقعات.
وأضاف أن بعض الشركات المملوكة للدولة "موجودة لسرقة الموارد فحسب"، وكشف عن نيةٍ لإغلاقها قريباً.
أمّا وزير الاقتصاد باسل عبد العزيز، فأعلن عن نيَّة الحكومة إحداث "تحول كبير نحو اقتصاد السوق الحرة التنافسي"، في إطار خطة تهدف إلى جذب الاستثمارات المحلية والأجنبية وخلق فرص عمل جديدة،
فيما أوضح وزير التنمية الإدارية فادي القاسم أن "احتياجات الدولة الفعلية من العمالة تتراوح بين 550 و600 ألف عامل" وهو ما يقل عن نصف العدد الحالي الموجود في المؤسّسات، ما يُشير إلى توجه لتقليص حجم الجهاز الإداري بشكل غير مسبوق.
وفي إجراءٍ استباقي، أفادت وزارة العمل بوضع "عدد من الموظفين في إجازة مدفوعة الأجر لمدة ثلاثة أشهر" لتقييم كفاءتهم، مُرجعَة القرار إلى "الفساد الإداري والبطالة المقنعة".
وأكد الوزراء الثلاثة أن الحكومة تعوّل على "زيادة الاستثمارات وتشجيع القطاع الخاص" لدعم الاقتصاد الوطني، مع الإشارة إلى أن هذه الإصلاحات ستُسهم في إعادة هيكلة مؤسسات الدولة وتحسين جودة الخدمات المقدمة للمواطنين.
و يرى المحلل الاقتصادي عبد الحكيم المصري أنه في ظرف كظرف المؤسسات السورية المنهارة، فلا بد للسلطات من إزالة "الأسماء الشبح" وتقليص الوظائف الزائدة، معتبراً أن ذلك خطوة ضرورية لوقف هدر الموارد، وإعادة توجيه الأموال نحو استثمارات منتجة، مما قد يُسهم في خلق وظائف جديدة عبر جذب القطاع الخاص.
ويوضح أن "انتقال العمالة من القطاع العام (المشبع بالبطالة المقنعة) إلى السوق الحرة قد يُحسّن الكفاءة على المدى الطويل، لكنه ينطوي على مخاطر قصيرة الأجل، مثل ارتفاع معدلات الفقر والاضطرابات الاجتماعية، خصوصاً إذا لم تُرفَق الإصلاحات بشبكة أمان اجتماعي.
وقد تؤدي هذه الإجراءات إلى تسريح عشرات الآلاف من العمال فعليّاً، خاصة مع إغلاق الشركات (الوهمية)، ما يفاقم البطالة في ظل اقتصاد منهك.
والسؤال هنا: هل ستكون فرص العمل الجديدة في القطاع الخاص كافية لاستيعابهم؟ خاصة مع عدم وضوح آليات حماية العمال أو برامج إعادة التأهيل".
كما يثير المصري تساؤلاً حول معايير اختيار الموظفين الذين سيُوضعون في "إجازة تقييم"، وهل ستعتمد على الكفاءة أم الولاءات السياسية؟ وما مصير من يثبت عدم كفاءتهم؟
ويستدرك: "لكن إذا افترضنا أن تقليص الإنفاق يشمل المتقاعدين على اختلاف مهنهم، فقد يُنظر إلى ذلك كجزء من سياسة تقشفية لتمويل الإصلاحات.
وعليه فإن حرمان فئات من المتقاعدين من رواتبهم ـ إن حدث ـ سيثير غضباً واسعاً، خاصة مع تآكل القوة الشرائية بسبب التضخم، وقد يُضعف الثقة في الإصلاحات الحكومية برمتها".
وحول الحلول المطروحة يقول المصري "إذا نجحت خطة جذب الاستثمارات الأجنبية، فقد تعوّض جزئيّاً عن فقدان الوظائف الحكومية، لكن ذلك مرهون بتحسين البيئة التشريعية ومكافحة الفساد بشكل فعلي، وهو تحد ضخم في ظل العقوبات الدولية والوضع الأمني غير المستقر".
ويلفت إلى أنه "وفقاً للسياق التاريخي، فإن تحولات اقتصاد السوق في دول تعاني من حروب غالباً ما تؤدي إلى تدهور الظروف المعيشية للطبقة المتوسطة والفقيرة، ما لم تُرافَق بضوابط صارمة لحماية حقوق العمال".
واعتبر أن "الإصلاحات المعلنة تُقدَّم كجراحة ضرورية لإنقاذ الاقتصاد، لكن نجاحها مرهون بمعالجة ثلاث ثغرات، وهي الشفافية في آليات فصل الموظفين وإدارة موارد الدولة، ووجود سياسات تحمي المتضررين من الإصلاحات، ومعالجة أسباب عزوف المستثمرين تاريخيّا كالفساد والبيروقراطية والعقوبات"،
مضيفاً أنه "من دون ذلك، فقد تتحول هذه الإجراءات من علاج لأزمة الفساد إلى عامل تفجير لأزمات اجتماعية جديدة".