قد تبدو التحديات معقدة لكن الحلول ممكنة!!
ظهر أمامي منشور يتكرر بين الحين والآخر، نحن بحاجة إلى تدخل الدولة لدى المملكة العربية السعودية لتمديد عقود عمل الأطباء اليمنيين او البرفيسورات او غيرهم العاملين هناك.
الحديث هذه المرة هنا يدور حول 600 طبيب وطبيبة يمنية سيتم الاستغناء عنهم في سوق العمل السعودي بسبب عدم الحاجة إليهم، وهم يمثلون شريحة تمتلك قدرات وخبرات كبيرة.
وهذه المشكلة تتكرر دائما برغم انه يجب ان نبحث عن حل استراتجي يشارك الجميع به حتى لانظل نستجدي نكن شقاة باليومية عند الغير للابد.
ففي اليمن والمنطقة ككل، لدينا ثروة بشرية طبية يمنية تحتاج فقط إلى القليل من التأهيل والاهتمام لتبدع وتعطي أفضل ما لديها. يمكننا الاستفادة منهم إذا كان هناك تخطيط حقيقي من الدولة، خاصة إذا أضفنا إليهم الخبرات المتراكمة لأقرانهم في الغرب والشرق.
على سبيل المثال، في ألمانيا وحدها يوجد أكثر من 1000 كادر طبي يمني مؤهل تأهيلاً عاليًا، ولم أتحدث بعد عن الدول الأخرى.
حتى في مدينتي الصغيرة هنا، لا يقل عدد الأطباء اليمنيين عن 13 طبيبًا وطبيبة، ولدينا 83 مدينة، مما يعني أن الرقم 1000 طبيب وطبيبة يمنية في المانيا مقبول من الناحية الإحصائية اما في بريطانيا فالارقام اكبر.
بمعنى آخر، في أربع إلى خمس دول فقط، سنجد كاسقاط احصائي لدينا حوالي 3000 طبيب وطبيبة يمنية كحد أدنى. أكثر من 70% منهم لن يعودوا إلى اليمن لاسباب عديدة،
وهذا ليس مشكلة من وجهة نظري، لكنهم يستطيعون الإسهام في نقل الخبرات والمعرفة الطبية إلى اليمن بوجودهم في الغرب، إذا وفرنا لهم وعاءً للاستيعاب والتحفيز، مثل تحفيزهم بمشروع اكتتاب كما فعلت مصر وتركيا والبلقان سابقًا.
هنا يمكننا إنشاء مشروع اكتتاب يكون هدفه "بناء مدينة طبية" ذات جودة عالية تنافس الشرق والغرب كهدف بعيد المدى، بحيث لا يحتاج أحد بعد ذلك إلى السفر للعلاج في الخارج. مشروع يولي الاهتمام لكل التفاصيل الدقيقة:
من المستثمر إلى العامل، ومن الكادر الطبي إلى البيئة والخدمات والى المريض والمرافق كما تقوم بذلك قطاعات الخدمات الصحية التركية.
باستثمار لكل شخص او اسرة بسيط يصل إلى 100 ألف دولار للبطاقة الذهبية، و40 ألف دولار للبطاقة الفضية، أو حتى 20 ألف دولار للبطاقة البرونزية، يمكننا جمع ما بين 100 إلى 200 مليون دولار من 3000 مستثمر تقريبًا.
إذا دعمت الدولة المشروع بنسبة 50% كما تفعل الدول الأخرى في مشاريعها الاستراتيجية، سيكون لدينا حوالي 50 مليون دولار إضافية.
هنا نتحدث عن مدينة طبية بتكلفة أولية تصل إلى 150 الى 200 مليون دولار، ناخذ قرض بنكي ب 150 مليون دولار وهي كافية لإنشاء مدينة طبية حديثة اي نتحدث عن300 مليون دولار، والتي يمكن أن تكون المرحلة الأولى، تليها جامعة ومصنع أدوية إذا تعاون الجميع وبأفضل المواصفات الدولية، وكادر طبي يتمتع بخبرات عالية وتعاون دولي مع الأطباء اليمنيين في المهجر.
نحن نتحدث عن مدينة طبية بجودة غربية او نقول المانية عالية تغني عن السفر للخارج، وتكون الحل لمشكلة استراتيجية متجذرة داخل المجتمع منذ عقود.
السؤال الآن، هل تستطيع المدينة الطبية استيعاب الكفاءات اليمنية التي يتم تهديدها بالطرد، وحل مشاكل المرضى، وإفادة المجتمع والدولة؟
الإجابة هي نعم. يمكن تلخيص ذلك بأن المدينة ستكون مرحلية ولكن هدفها أن تستوعب حوالي 9000 موظف، منهم حوالي 800 إلى 1000 طبيب وطبيبة مع استمرار تأهيلهم من فرقنا الطبية في الغرب، وبطاقة استيعابية تصل إلى 2200 سرير، أي ضعف قدرة المستشفيات الحالية لدينا.
هذه المدينة ستغطي حوالي 90 ألف حالة رقود سنويًا، وفي العيادات الخارجية يمكن أن تستقبل حوالي نصف مليون زيارة سنويًا.
المستشفى الجامعي في مدينتي يستقبل نصف هذه الأرقام سنويًا بوجود 511 طبيبًا وطبيبة. السؤال هنا، كم عدد المرضى اليمنيين الذين يسافرون للخارج؟
الإجابة هي أن اليمن لا تعتمد -على قواعد بيانات دقيقة- بل على تقديرات وإسقاطات إحصائية ولذا لايمكن الجزم بشكل مطلق. لكن حتى مارس 2015،
كانت التقديرات تشير إلى أن حوالي 290 ألف مريض يمني يغادرون سنويًا للعلاج في الخارج والدول المجاورة، بمعدل 800 شخص يوميًا (وهذا رقم غير منطقي، لذلك لتوضيح الفكرة نأخذ نصفه، أي حوالي 400 شخص).
كانت الحالات تتوزع بين أمراض مثل الفشل الكلوي، السرطان، الكبد الوبائي، أمراض القلب، الانزلاق الغضروفي، الجراحات التخصصية، حوادث الطرق، وأمراض الجهاز الهضمي.
هؤلاء ينفقون حوالي 580 مليون دولار سنويًا، وإذا اعتبرنا رقم الحكومة صحيح، فإن التكلفة تصل إلى مليار و200 مليون دولار سنويًا، اي بمتوسط 4 آلاف دولار لكل شخص تشمل تكاليف السفر والعلاج، وهو مبلغ قليل بالمقارنة مع وجود مرافق.
التقديرات الحكومية حتى عام 2012 تحدثت عن أكثر من 900 مليون دولار سنويًا، وفي السنوات الأخيرة كانت التقديرات الرسمية تشير إلى نفقات تتراوح بين 700 مليون و900 مليون دولار.
نحن هنا لم نتحدث عن المغترب اليمني والذي هو ايضا يحتاج للخدمات لذلك أجد الرقم الذي احتسبته أكثر منطقية وهو مايقارب 580 مليون دولار،
لكن الأهم هو أن النصيب الأكبر من هذه النفقات يذهب إلى مستشفيات الأردن ومصر والهند، وياليت معاملتهم لليمنيين في المطارات تكون دون إذلال الكرامة كما نسمع عنه.
نحن نتحدث هنا أنه لو وفرت المدينة الطبية خدماتها بنصف ماتحدثت الحكومة، فسنتحدث عن إيرادات تتجاوز تقريبة في حدود 400 مليون دولار سنويًا، خاصة وأنها ستكون هناك ايضا خدمات عيادات خارجية بجودة عالية، مما يجعل الهجرة عكسية إليها من الخارج، وخاصة من المغتربين اليمنيين وأبناء القرن الأفريقي إذا استقطبنا كفاءات طبية حقيقية من أبنائنا المبدعين في الغرب.
السؤال الآن، هل المشروع مجزٍ ماليًا كاستثمار؟
الإجابة من النظر إلى الإيرادات وتقسيمها إلى ثلاثة أجزاء نعم. الجزء الأول يخصص لتحديث بنيتها التحتية وخدمت الدين بتكلفة تصل إلى 80 مليون دولار،اي بعد لاث سنوات او خمس نكن انتهينا من الدين. الجزء الثاني يخصص لرواتب حوالي 9000 شخص، بمتوسط راتب يتراوح بين 2000 إلى 3000 دولار شهريًا للأطباء، وعددهم سيكون حوالي 800 طبيب وطبيبة، بتكلفة تصل إلى 150 مليون دولار.
أما الجزء الثالث، فيخصص لصيانة وتشغيل الخدمات بقيمة 40 مليون دولار، و50 مليون دولار سنويًا تُعطى للمساهمين كأرباح، و20 مليون دولار تُخصص لبناء عيادات أو مستوصفات خارجية مستقلة في المحافظات، مما يسهل الوصول إلى الخدمات والبيانات التشخيصية.
من المبلغ المتبقي، يتم تخصيص 20 مليون دولار لبناء جامعة طبية، و10 ملايين دولار مع قرض بنكي لبناء مصنع أدوية يُسدد خلال خمس سنوات.
ما هو الأثر؟ بعد سنوات، سنرى النتائج. اولا ماليًا، ما كانت اليمن تنفقه في الخارج لخمس سنوات من تكاليف العلاج سيتحول إلى مدخرات داخل البلاد.
نحن نتحدث عن ادخار خمسة مليارات دولار كانت ستخرج من اليمن في هذا البند.
ثانيا خلال خمس سنوات نكون وطنا المعرفة في الحقل الطبي، وحللنا مشكلة استراتيجية للبلد، وارتقينا بالقطاع الصحي خطوات عدة، وخدمنا المجتمع في كوارث منها رفع جودة الخدمات الطبية في القطاع الخاص من باب المنافسة.
وثالثا نكون قد وظفنا 9000 شخص، أي فتحنا 9000 أسرة، وحملنا 50 ألف إنسان في حياة كريمة،
ورابعا شاركنا في بناء مصنع لإنتاج الأدوية وتخلصنا من التبعية للخارج، وانتشرنا بعيادات خارجية ذات جودة عالية في المحافظات والمديريات، ونقلنا القطاع الصحي إلى مجتمع البيانات، مما يسهل بناء شبكات التأمين للقطاعات الحكومية والخاصة.
ولا ننسى اخيرا أنه خلال خمس سنوات سيكون لدينا جامعة بميزانية تقارب 80 مليون دولار. اي بعد خمس سنوات، سيكون لدينا انتعاش في منطقة نائية للسياحة الطبية –
لكن لا الدولة ولا القطاع الخاص فكرا بمثل هذه المشاريع الاستراتيجية الكبرى في الأربعين سنة الماضية، على الأقل لتخفيف معاناة اليمنيين من إذلال الكرامة في المطارات والاستغلال في الخارج. والسؤال اين المشكلة الى اليوم؟
القطاع الخاص في هذا المجال، باستثناء قلة منه، ركز على العائد المادي السريع، مما جعله لا يبحث عن الجودة أو الخدمات أو المنافسة أو الكفاءات اليمنية المهاجرة، التي تتمنى أن تخدم اليمن في مناطق استقرار آمنة بدلاً من سنوات الغربة.
أما القطاع الحكومي، فهو يحتاج إلى معجزة لإصلاحه، خاصة وأنه غلب عليه تردي الخدمات الطبية، الفساد، وعدم وجود سياسة صحية صارمة أو نظام صحي وإداري واضح ومحفز، مما جعل الطبيب المجتهد والمبدع يُحارب ويُهمل،
بينما يرتقي الفاشل لمجرد انتمائه لفصيل معين. النتيجة أن عقولنا الطبية تركت اليمن إلى دول الجوار والخارج.
لذلك، فإن ظاهرة السفر للعلاج في الخارج كانت وما زالت انعكاسًا لعدم ثقة المريض بالدوة وبالطبيب اليمني وبالخدمات الصحية اليمنية، خاصة مع كوارث التشخيص.
وليس ذلك فحسب، بل كانت الظاهرة أيضًا انعكاسًا لغياب الرقابة والاستهتار بحقوق الناس، وانعكاسًا لعدم وجود نظام ونظافة أو تقييم منصف للمستشفيات الحكومية والخاصة.
يمكن الاستمرار في البحث عن الأسباب، التي لن تنتهي، ولن نتوقف هنا عن سردها، مثل عدم وجود عقوبات رادعة على مرتكبي الأخطاء الطبية، والتي تصل إلى المئات وليس العشرات سنويًا، مما يجعل المصابين في النهاية يذهبون للخارج لعلاج الأخطاء الطبية المرتكبة، ومن مات فذلك قدره.
طبعًا، أبناء اليمن من الكفاءات في الداخل والخارج يستطيعون المساهمة في إنقاذ القطاع الصحي بوجود دولة، ولا يجوز الانتقاص منهم؛ فمنهم من يعمل بصمت وإخلاص حتى في مثل هذه الظروف الشاذة، لكنهم في النهاية ليسوا هم الدولة.
باختصار، المستشفيات في الخارج تستغل حاجة المرضى اليمنيين وتعطيهم أسعارًا مختلفة عن الأسعار التي تعطى للمريض المواطن، والتي تصل إلى ثلاثة أضعاف السعر في كل شيء: من العلاجات إلى أجور الأطباء وأسعار العمليات الجراحية وغيرها.
هذا يجعل اليمني في النهاية يقطع علاجه لعدم قدرته على الصمود حتى نهاية مراحل العلاج، مما يجعل رحلته دون فائدة: فلا هو وجَدَ صحته، ولا استطاع تجنب بيع بيته من الديون بعد الرحلة، ولا حفظ كرامته في المطارات من الإجراءات المهينة.
وأسهل الحلول للحد من ظاهرة السفر للعلاج هي إنشاء مدن طبية ذات جودة عالية في مناطق استقرار آمنة مثل سقطرة أو المهرة، لحالات تحتاج إلى السفر للعلاج، خاصة وأن النفقات تغطي ذلك، أو الاستثمار للقطاع الخاص، خاصة وأن كفاءات اليمن الطبية لا تحصى، والراغبين في المساهمة والعودة موجودون.
يتبع ذلك إعادة تقييم التراخيص للمنشآت الطبية ومراقبتها من اللجان الطبية للدولة أو حتى من أطبائنا في الخارج، حيث يمكن تكليفهم كلجان تقييم أو إعادة تأهيل أو نقل معرفة، مع وضع معايير صارمة في ذلك، خاصة وأن المنشآت الخاصة بدون رقابة تحولت إلى مراكز لتحصيل الأموال فقط، ولا ترتقي حتى للمقارنة بأي مستوى في المنطقة، فما بالك بالخارج.
والسؤال هو: هل لدينا القدرة لبناء مدن طبية حاليا في هذه الفترة والصراع؟
الإجابة هي ايضا نعم. فسلطات صنعاء تحدثت مرات عدة عن 25 ألف حالة إنسانية مرضية تريد السفر، وحتى لو كان هذا الرقم يمثل كل اليمن، نأخذه كمثال تقريبي بسيط.
إذا قلنا إن الرقم صحيح، فهو يعتبر قليلًا بالنظر إلى أن البلد في حرب أفرزت كوارث صحية وإعاقات وإصابات كبيرة.
هنا نتحدث عن أكثر من 25 مليون دولار نفقات سفر لهذا العدد مع المرافقين، وسكن بنفس المبلغ لمدة أقل من شهر، ومصاريف معيشة لمدة شهر، نقول 25 مليون دولار ومواصلات وتكاليف علاج بمعدل 5 آلاف دولار، أي هنا 125 مليون دولار كحد أدنى مع النفقات الأخرى،
بمعنى أن الإنفاق سيتراوح بين 150 إلى 250 مليون دولار، ونقول خلال شهرين بدلًا من شهر كمثال فقط.
فكيف لو كان هناك مدينة طبية يمنية بجودة عالية، سواء قطاع خاص أو مختلط، تستفيد من ذلك على الأقل لتخلق أثرًا وتنمية ورعاية اجتماعية؟
قد تبدو التحديات الصحية في اليمن معقدة ومتشابكة، لكن الحلول الممكنة ليست بعيدة المنال.
بل إنها تكمن في استغلال الإمكانيات المتاحة لدينا بالشكل الأمثل. لنبدأ بحقيقة واضحة: لدينا كفاءات طبية يمنية متميزة داخل البلاد وخارجها، سواء من الأطباء العاملين في المملكة العربية السعودية أو من الكوادر المؤهلة في أوروبا وأمريكا وغيرهما.
هذه الثروة البشرية تحتاج فقط إلى دعم وإطار استراتيجي واضح للاستفادة منها.