
من النسيان إلى الغفران: هل يمكن أن نتسامح في العالَم العربي؟
في ظلِّ حالةٍ من الكراهية العميقة على المستوى العقلي والاحتراب المميت على المستوى التطبيقي بين شُركاء الوطن الواحد في العديد من البلدان العربية، كما في سورية والعراق واليمن وليبيا ولبنان، يُصبح مشروعاً من ناحية، ومصيرياً من ناحية ثانية، أن نسأل:
هل يمكننا أن نتسامح في العالَم العربي؟
تأتي مشروعية السؤال ليس من ناحية أخلاقية فحسب، بل من ناحية اجتماعية أيضاً.
فالبُعد الأخلاقي يتطلب مزيداً من الرحمة والمودة بين البشر لاستمرار الحياة وتسيير شؤونها بما يليق بكرامتهم وإنسانيتهم.
والاجتماع السياسي قادر على استيعاب تجارب البشر، وهذا ما أثبته تاريخ الشعوب الحيَّة على مرّ الزمان على اختلاف مشاربها الثقافية وتنوعاتها.
أما عن مصيرية السؤال، فإبقاء الوضع على ما هو عليه من كراهيات عميقة وحروب مميتة يمكن أن يُنهك شعوباً عربية ويُفنيها، ويُخرجها من الدائرة الحضارية كاملة، فهي مشغولة باحتطاب بعضها بعضاً، دون أن يكون لها أي اهتمام حياتي آخر.
وفي الوقت الذي يتقدّم فيه الآخرون، علمياً وأدبياً وفلسفياً وأخلاقياً واقتصادياً وعسكرياً واجتماعياً، تتأبد مجتمعات الكراهيات والحروب في دائرة مُغلقة من العنف والعنف المضاد، ولن يكون الخروج منها صعباً فحسب،
بل يمكن، وهذا هو الأشد خطورة، أن تستهل الدُّخول إليها أيضاً، بما يجعلها تُدافع عن تلك الدَّائرة من العنف المميت باعتباره جزءاً أصيلاً من هُويتها الوجودية الجديدة، وهذا ما سينعكس سلباً في العالم العربي،
إذ يمكن أن يصطبغ وجودنا كاملاً بصبغةٍ عنيفة ومميتة، نُعرف هُوياتيَّاً، على المستويين الدَّاخلي والخارجي، من خلالها.
لذا، يُصبح البحث عن مَخرج طوارئ (بانتظار تحوُّل هذا المَخرج إلى بوابة دائمة) من هذا الوضع الكارثي، مسألة في غاية الأهمية.
وهل يمكن الانتقال من سؤال: هل يمكن أن نتسامح في العالَم العربي، بما هو سؤال ذهني، إلى سؤال: كيف يمكن لنا أن نُطبِّقه في الواقع العملي؟
أو ما هي الخريطة التي يمكن أن نرسمها للإنسان العربي الحديث، بحيث يصبح متسامحاً، ولديه القدرة على استئناف حياته بعيداً عن دائرة العنف المميت؟
هل يمكن لورثة مقتول أن يُسامحوا من قَتَلَ والدهم أو ابنهم؟
وهل يمكن لشعبٍ أن يُسامح قتلته الذين ارتكبوا بحقِّه عدداً كبيراً من المذابح والإبادات؟
على المستوى الفردي، يبدو الأمر أسهل بكثير، إذ لا ذاكرة تُثقل كاهل الورثة، فالقاتل معروف على الأغلب، ويمكن أن يأخذ جزاءه إن كان قد أقدم على القتل بشكلٍ مُتعمَد، ويمكن أن يعفى عنه إن كان الأمر خطأ أو غير مقصود.
لكن على المستوى الجمعي، الأمر مُختلف تماماً أو أكثر تعقيداً بالأحرى، فثمة إرث هائل من الألم والقسوة والدِّماء، والأرشيف الأسود الذي تتوارثه الأجيال، جيلاً إثر جيل، بما يُحوّله إلى جزء من موروثاتهم الوجدانية والاجتماعية والثقافية. لكن إلى متى يمكن أن يستمر الأمر هكذا؟
في انتصار الإرادة الحُرَّة على الذَّاكرة المُتخمة بأرشيف هائل من الذكريات المؤذية، تحدَّث المفكر الفرنسي بول ريكور في كتابه "التاريخ، الذاكرة، النسيان" عمَّا أسماه بـ"الغفران الصعب". فبعد حربين كبيرتين ومُهلكتين في القرن العشرين، أودتا بحياة عشرات الملايين من البشر،
أُثقلت الذَّاكرة الأوروبية بآلامٍ جسام، وصار الخلاص منها صعباً جداً، لكن كان عليها العبور إلى الغفران بما هو عمل من أعمال الإرادة الحُرَّة، وقدرة الإنسان على إحداث قطيعة مع التاريخ المؤذي والمُدمِّر للسياق التشاركي، التراحمي، التسامحي، الذي ينبغي أن يحتكم إليه الاجتماع السياسي.
ففي نهاية المطاف، ليس من فئة أو طائفة أو شعب إلا ولديه أرشيف هائل من الذكريات المؤلمة بحق الفئات والطوائف والشعوب الأخرى. وإذا لم يتم التجاوز عن هذا الإرث فسيبقى الورثة في شقاء دائم.
عربياً، لا يمكن للأحياء أن يغفروا من دون نسيان، إذ سيبقى الأموات يطلون برؤوسهم، ويذكروننا بما تعرضوا له من آلام وعذابات، بما يضعنا أمام استحقاقات عنيفة ومُدمرة. لكن كيف يمكن لنا أن ننسى ذكرياتنا المؤلمة والقاسية، ونتجاوز هذا الأرشيف المُخيف؟
يمكن أن نضع خريطة تربوية تتشارك في صياغتها، منذ اللحظة الأولى، مختلف الأطياف في المجتمع الواحد، بما يجعل منها برنامجاً سياسياً يُصبح تطبيقه، في المجتمع باسم القانون، أمراً نافذاً بالقوة.
أي أن القرار السياسي المُشترك هو نقطة البدء في تفعيل تلك الخريطة، ثم تحويلها إلى سياق تربوي فاعل، يستعيد الذاكرة الإيجابية بين أبناء الوطن الواحد، بما يتضمن تحييد، على الأقل في فترة التأسيس، الذَّاكرة السلبية.
وشيئاً فشيئاً، ستنشط تلك الذاكرة الإيجابية، وتتحوَّل إلى جزء من البنية الثقافية في عقول أبناء الوطن الواحد، بما ينعكس إيجاباً على تجلياتها في الواقع العملي.
فالأجداد، سواء لدى الشعب السوري أو الأردني أو العراقي أو الليبي، كانوا قد خلقوا ذاكرة عامرة بأنماط العيش المشترك، حول مآكلهم ومشاربهم وعاداتهم وتقاليدهم وقصصهم وأساطيرهم ومواسمهم وأعيادهم... إلخ؛
ما يجعل من استعادتها وترسيخها في أذهان الأحفاد عملاً مأثوراً على مستوى الإرادة الحُرَّة، وتهيئة الطريق لمجتمعٍ يتنافس أبناؤه على ترسيخ المشتركات الإيجابية فيما بينهم، مع استبعاد كل ما من شأنه أن يُعيد للذاكرة آلامها وأحزانها.
ويقيناً، إنَّ هذا النهج التربوي، لا بُدَّ له أن يقترن بمكتسباتٍ وجدانية وسياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية لجميع أبناء الوطن الواحد، حتَّى تكتمل صورة النسيان في الأذهان والأعيان،
وتبدأ، بموازاتها، مرحلة تخليق صورة للغفران. إذ لا تكفي استعادة المشتركات الإيجابية على المستوى التربوي، وإبقاء ذلك في طور الطُّوبى لدى الناشئة،
بل لا بُدَّ أن يشعر المواطن أنه يقف بتساوٍ مع الجميع في بناء الوطن، ابتداء من شعوره الوجداني بعدم النقص، وليس انتهاء بحقِّه في الشراكة السياسية، مروراً بتأمين معيشه وحفظ حقوقه وتعزيز قيمه الثقافية.
حقيقة، هذا شأن صعب وشائك، لكنه يستحق، ليس لأنه يُشكِّل انتصاراً لإراداتنا الحُرَّة على حساب ذكرياتنا التي يمكن أن تخضع في تدفقاتها إلى منطق غريزي بحت، فحسب، بل لأنَّ شعوبنا العربية،
أيضاً، تعبت وأُنهكت وأُهدرت حيواتها من كثرة استعادة آلامها وأحزانها، وآنَ لها أن تتخذ قراراً جريئاً، يُريحها ويريح أبناءها، ويمنحهم ما يستحقون من حياة تحفظ وجودهم الإنساني من جهة، ووجودهم الحضاري من جهة ثانية.
*معاذ بني عامر - كاتب وباحث من الأردن