صرخةٌ يمنية: حين يستفيقُ الشعبُ ويهوي الطغيان
في دهاليز الوجع اليمني، حيث يتراقص ظلّ الظلم على جدران الروح، تنفجر الكلمات حارقة كبركانٍ يرفض السكون.
إنها ليست مجرد أبياتٍ تُلقى، بل هي صرخة شعبٍ أرهقته يدُ الطغيان، وبيانٌ فلسفيٌّ عن العلاقة الأزلية بين الحاكم والمحكوم، علاقةٌ لطالما اهتزت على وقع الاستبداد والخضوع، لكنها اليوم تتشكل في وعيٍ جديد، وعيٌ يُنذر بزلزالٍ قادم.
يُمسك الشاعر اليمني بناصية الألم، ويوقد شرارة الغضب في قلوبنا، فكأنما "إذا خبث المطعم"، لا يعود هناك منقذٌ سوى مواجهة الخبث بذاته.
لقد "استذأبوا" و"استضغموا" على ساحة البغي، هؤلاء الذين اعتادوا هدأة الشعب، فظنوا الخنوع ضعفًا أبديًا.
إنها ليست قسوة فردية، بل هي منظومةٌ تتغذى على الاستسلام، فـ"كل جبانٍ شجاع الفؤاد، عليك، إذا أنت مستسلم".
هنا تكمن الفلسفة الجوهرية للظلم: هو لا يولد من قوة الطاغية فحسب، بل ينمو ويتغذى على إذعان المظلوم. "وإذعاننا جرَأ المفسدين علينا وأغراهم المأثم".
هذه هي الحقيقة العارية التي يجب أن تُفهم: إنّ شراكة الصمت والخنوع هي من تفتح أبواب الجرأة للطغاة.
يتعمق الشاعر في تشريح الواقع، ليصف دولته التي لا تملك سوى "يدٍ تجتني وحشاً يهضم"، و"غيدٍ بغايا لبسن النضار"، رمزًا للفساد المستشري والتزيين الخادع لوجه القبح.
"وسيف أثيم يحز الرؤوس وقيدٌ ومعتقل مظلم"، هي صورةٌ حيةٌ للدولة القمعية التي لا تعرف لغةً سوى لغة السوط والسجن، والتي يتلوى طغيانها "في الخداع كما يلتوي في الدجى الأرقم".
إنها دولةٌ تدعي العفة والوجود بأصناف خستها مفعم، دولةٌ آثامها لم تسعها اللغات، ولا يستطيع أعظم المبدعين أن يصور فظاعتها.
إنها تتفنن في الظلم وتصول على ضعفنا، وتتشدق بالقوة بينما هي "بأكباد أمته تولم". هذا ليس مجرد وصف، بل هو إدانةٌ فلسفيةٌ لكيانٍ قام على سلب كرامة الإنسان وحقه في الحياة.
ثم يرتفع صوت الشاعر ليطرح سؤالًا وجوديًا: من يحكمنا؟
يجيب: "عبيد الهوى يحكمون البلاد ويحكمهم كلهم درهم". إنها شهوةٌ لا تنام، تقودهم في جهالتهم إلى نومٍ عميق، بينما الشعب يستيقظ. يختزل الحاكم في صورة "الظالم الغبي" الذي يسلطه "أظلم"، لتتكون حلقةٌ مفرغةٌ من الجهل والاستبداد.
هنا تبلغ القصيدة ذروتها، وتتحول من مجرد رثاءٍ للواقع إلى نداءٍ ثوريٍّ لاذع: "أيا من شبعتم على جوعنا وجوع بنينا، ألم تتخموا؟"
إنه استفهامٌ استنكاريٌّ يحمل في طياته تهديدًا مبطنًا، فجوّع الناس إلى حد التخمة لا يورث إلا انفجارًا.
يختتم الشاعر قصيدته بسؤالٍ يهز أركان الضمير، وينذر بالآتي: "ألم تفهموا غضبة الكادحين على الظلم؟ لا بد أن تفهموا؟"
هذا ليس سؤالًا، بل هو إنذارٌ صاعق، زلزالٌ كامنٌ في أعماق الوعي الشعبي الذي "أفاقت مناه وأفكاره في الكرى تحلم".
لقد بات الشعب يعلم، وهذا العلم هو بداية الثورة الحقيقية. إنها ليست ثورة سيوفٍ ودماء فحسب، بل هي ثورة وعيٍ تدرك أن الطغاة "على علمه" يظلمون، ويغضبهم "أنه يعلم".
فمتى أدرك الشعب حقيقة جلاده، ومتى سقطت عنه غشاوة الجهل، حينها لن يستطيع الطاغية أن يختفي، ولن تستر آثامه أقنعة الخداع.
إن هذه القصيدة، يا أيها اليمن، ليست مجرد مرآةٍ تعكس الواقع، بل هي نبوءةٌ لمستقبلٍ لا بد أن يأتي.
إنها دعوةٌ صريحةٌ لتحرير الوعي، وإدراك أن "أشرف أشرافها سارقٌ وأفضلهم قاتلٌ مجرم" ليس قدرًا، بل هو واقعٌ يمكن تغييره.
فمتى استيقظ الشعب من سباته، وأدرك قوته الكامنة، حينها لن تعود القصيدة مجرد كلماتٍ حارقة، بل ستصبح شرارة ثورةٍ لا تبقي ولا تذر، ثورةٍ تعيد للحق أهله، وللعدل مكانته، وتلقن الحاكمين درسًا في التاريخ لن ينسوه.
هذا هو صوت اليمن العميق، صوتٌ يحكي عن الألم، ويُبشر بالأمل، ويدعو إلى بناء مستقبلٍ يليق بعظمة هذا الشعب الأبيّ.
ملاحظة.. المقال مستوحى من قصيدة نحن والحاكمون للشاعر عبدالله البردوني