اليمن: لوحة الزمان الأزلية
في رحم التاريخ، حيث تتكسّر أضلاع الزمن وتتلاشى صرخات الأمم، تقف اليمن شامخةً، كأُيقونةٍ خطّتها يدُ الإبداع الإلهي على صفحة الوجود.
ليست مجرد بقعةٍ جغرافيةٍ تُعانق خاصرة الجزيرة العربية، بل هي سِفرٌ مفتوحٌ، كلُّ حرفٍ فيه يحكي قصةَ صمودٍ، وكلُّ سطرٍ فيه يروي حكايةَ تجلٍّ.
منذ الأزل، كانت اليمنُ مهدَ الحضارات، مأوى الأرواح التوّاقة إلى سبرِ أغوارِ الفلسفةِ وجمالِ البلاغة. هنا، حيث ترنّمت قوافلُ البخور بأناشيدِ التجارة، وحيثُ نسجت مملكة سبأ قصائدَ الحكمة والازدهار.
هذه الأرض شهدت خطى التبابعة العظام الذين بنوا مجداً لا يزول، والحميريين الذين سطروا تاريخاً من القوة والإبداع.
لقد كانت اليمنُ منبعَ النور الذي فاضَ على كلِّ أرجاء الجزيرة العربية وبلاد الشام والرافدين، وهي التي علّمت العالم فنَّ الملك والمالك والتيجان، فأرست دعائمَ الحكمِ والسيادة.
وفي صحائفها نُقشت سيَر عظماء كـإفريقيس الذي سميت إفريقيا باسمه، شاهداً على امتداد نفوذها. أما ذو القرنين، فهو الذي طاف أقاصي المعمورة من مطلع الشمس إلى مغربها، وسجن قوم يأجوج ومأجوج وجعل بيننا وبينهم ردماً كما ذكر القرآن الكريم،
مخلّفاً وراءه حكاياتٍ خالدةً. وامرؤ القيس، ذلك الملك التائه والشاعر المخلد، من كبار شعراء المعلقات، كان شاهداً على عمقِ البيانِ في هذه الأرض العريقة.
لقد كانت اليمنُ موطناً لملوكٍ نقشوا أسماءهم بحروفٍ من نور في سجلات الخلود، وتركوا وراءهم إرثاً لا يُضاهى من العمارة والفكر والسيادة.
أيها المتأمل، انظر إلى اليمن بعينِ الفيلسوف، تجدها تجسيداً حياً لـوحدة الأضداد.
إنها ليست أرضاً قاحلةً، بل هي بلد الوديان الخضراء والسهول الخصبة والحقول السقّارة والسدود العظيمة التي شهدت براعة أجدادنا في التحكم بالمياه.
وليست فقيرةً، فنحن أول من صنع العملات، وما زالت الجنيهات المصنوعة من الذهب الحميري أكبر شاهدٍ على ثرائنا القديم.
وإلى يومنا هذا، أهل اليمن هم أهل التجارة في الجزيرة وشرق أفريقيا، وكثير منهم لهم يدٌ طولى في الصناعة والطب والعمران في أوروبا وأمريكا.
هذه الازدواجيةُ العميقةُ ليست تناقضاً ضعفٍ، بل هي سرُّ قوتها الخفية، وفلسفةُ بقائها على مرِّ العصور. اليمن غنيةٌ أرضاً وإنساناً، لولا هذا الكابوس والفيروس الجاثم على صدرها.
الكابوس العابر... وشمس لا تغيب
لكن، كيف لفجرٍ كهذا أن يُغشى بسحابةٍ سوداء؟ كيف لأرضٍ كانت منبعاً للحضارة أن يجثم على صدرها كابوس الكهنوت الحوثي، ليطفئ شمسها الوضاءة ويخنق أنفاسها؟
لم تجنِ اليمن بمجيء هذا الكابوس وحكمه إلا الخراب الشامل: خراب الآثار التي هي ذاكرة الأمة، وتشويه تاريخ اليمن العريق، ودمار مدنها وموانئها ومطاراتها التي كانت شريان الحياة.
إنه نسخة منقحة من بختنصر الذي دمر بيت المقدس، جاء ليدمر اليمن ويزرع الخراب في كل ريز من أراضيها.
لقد دمر اليمن، وشتت أهلها ومزقهم، وحولها إلى بلد أشباح بتواطؤ عربي ودعم فارسي مريب، وكأن عربان الجزيرة ينتقمون من عراقة وحضارة اليمن، جاهلين أن تاريخ اليمن وحضارته ليست حكراً على اليمن وشعبه فقط، بل هي ميراث لكل عربي أصيل.
وعلى الصعيدِ الأدبي، فإن اليمنَ قِصّةٌ لم تُروَ بعدُ بكاملِ فصولها. هي ملحمةٌ شعريةٌ تُنشدُها الجبالُ الشاهقة، وروايةٌ نثريةٌ تُسطّرها سهولُها الممتدة.
فيها، يمتزجُ الواقعُ بالأسطورة، والحقيقةُ بالخيال، لِتُنتِجَ نصوصاً لا تُكتبُ بالمداد، بل تُحفرُ في الصخرِ، وتُوشمُ في الذاكرة.
البلاغةُ فيها ليست مجردَ زينةِ كلام، بل هي روحٌ تسكنُ اللغة، فتجعلُ من كلِّ كلمةٍ فِعلاً، ومن كلِّ صمتٍ حكمة. هي بلاغةُ الصمود، بلاغةُ الانتماء، بلاغةُ اليمن الذي يُعلّمُ العالمَ كيف يكونُ الوطنُ فكرةً لا تموت.
يا قارئ هذا المقال، إن اليمنَ ليست مجردَ خبرٍ عابرٍ في صحيفةٍ يومية، ولا قضيةٍ تُحلّلُها الندواتُ السياسية. إنها تجربةٌ إنسانيةٌ كونيةٌ، دعوةٌ للتأمل في معنى الصمود، في قيمةِ الهوية، وفي قدرةِ الروحِ البشرية على الارتقاء فوق أنقاضِ الألم.
هي لوحةٌ تتجددُ ألوانها كلَّ يوم، تدعونا لنتجاوزَ السطحَ إلى العمق، ومن الخبرِ إلى الجوهر.
هذا المقال هو مجردُ وميضٍ من نورِ اليمن، محاولةٌ لِلمسِ جزءٍ من كينونتها التي تتجاوزُ الكلماتِ والتعريفات. هي قصةُ أمةٍ كُتبت بدمِ الشهداء، وصبرِ الأحياء، وأملِ الأجيال القادمة.
وسيأتي اليوم حتماً الذي تتخلص فيه اليمن من هذا الفيروس الخبيث الذي عاث فساداً في أرضها وروحها. إن غداً لناظره قريب،
فما كان لليمن أن تستكينَ لطاغية، وما كان لشمسها أن تغيب إلى الأبد.