
الشرق الأوسط واستراحة الضرورة
ضاقت خرائط الشرق الأوسط بالحروب التي تلد أخرى، لا يمر عام إلا وهناك حربٌ كبرى تقع في الإقليم، أو على حوافه اللصيقة. تستيقظ الشعوب بتوقيت الانفجارات والصراعات والقلاقل، أحياناً المباغتة والمفاجئة.
على مدار ثمانين عاماً، وقعت عشرات الحروب، ودائماً ما تكون بسبب اصطدام العقائد والمذاهب والأعراق، وكأن المنطقة مكتوب عليها أن تقيم على حزام الزلازل،
بعض الجماعات والتنظيمات احترفت اختطاف القرار السياسي للمنطقة، وأشعلت حروباً عرضية غير مخططة، فتحولت إلى كارثة مفزعة ربما يصبح الخروج منها يحتاج إلى معجزة، كما يجري الآن في قطاع غزة، وعواصم عربية أخرى.
الآن، نحن في قلب حرب كبرى، بدأت يوم السابع من أكتوبر (تشرين الأول) عام 2023، وتواصل تصاعدها لتشكل سلسلة من الحروب التي تدور على هامشها من جنوب لبنان، وسوريا واليمن،
وأخيراً في حرب الاثني عشر يوماً بين إسرائيل وإيران، التي شاركت فيها الولايات المتحدة بهدف إيقاف الحرب نهائياً في الشرق الأوسط كما يقول البيت الأبيض.
انطفأت النيران في حواف غزة، لكنها لا تزال مشتعلة في القطاع نفسه، وثمة مبادرات تلوح في الأفق، ويبدو أن هناك تصوراً ناضجاً ينهي مأساة غزة على الأقل في الأفق القريب،
فثمة مبعوثون أميركيون يهبطون إلى عواصم العرب من أجل إنضاج هذه المبادرات، فنرى تحركات توماس براك، المبعوث الأميركي إلى سوريا ولبنان في مفاوضات ماراثونية حول الأفكار المطروحة للمستقبل، كتوقيع اتفاقيات جديدة، تحاول أن تعيد الهدوء لحزام الزلازل،
وكذلك نسمع ونشاهد المبعوث الأميركي ستيف ويتكوف، وهو يتجول حول تكوين مبادرة شاملة تحاول أن تطفئ النيران،
ولا شك أن هناك عواصم عربية على اطلاع بكل هذه المبادرات، تضيف وتحذف منها حسب سياقات الوضع الإقليمي، ولا شك أن هذه العواصم العربية تريد حل القضية من جذورها، ولا ترغب في ترك الجمر تحت الرماد، ليشتعل في أي لحظة.
إذ، إن أي حرب ستتوقف حتماً، حين يرى أحد أطرافها أنه حقق أهدافه، لكن الحرب في غزة تختلف عن أي حرب، فأهدافها أوسع من مساحتها، وقد استغلها اليمين الإسرائيلي أيما استغلال،
لكن ورغم الإبادة الجماعية للفلسطينيين وتدمير مقدراتهم ومحاولة تهجيرهم وتصفية قضيتهم، فإن الأمر لا يستقيم في النهاية بهذه الأفكار.
صحيح أن إيقاف الحرب في حد ذاته مطلب عربي ودولي وإنساني بشكل عام، لكنه يجب أن تتوقف الحرب، وتتوقف مظاهرها بالكامل في الشرق الأوسط،
وتمتنع كل الأطراف عن استغلال قضية الشعب الفلسطيني من أجل توسيع النفوذ مثلما تم استغلالها على مدى ثمانية عقود، وباتت القضية بمثابة «بيضة الديك»، الكل يستغلها لصالحه،
فليس خافياً على أحد أنه تم استخدام القضية الفلسطينية في اندلاع حروب وثورات وانقلابات، ولا شأن للشعب الفلسطيني بها.
الحقيقة أننا في حاجة إلى علاج جذور المشكلة بالكامل قبل أن تصبح المنطقة لوحة تنشين أو ميداناً للرماية، فشعوب الشرق الأوسط تحتاج إلى استراحة محارب،
ونعتقد أن آثار حرب الاثني عشر يوماً، وضعت خطاً فاصلاً بين زمنين، فكل طرف من طرفي الحرب، شعر بأن الحرب ليست مجرد بيان على شاشة تلفاز،
بل هي تكلفة هائلة ومناهضة لمستقبل الشعوب، من بناء واستقرار، خاصة إذا أدركنا أن الحروب الحديثة بأجيالها المركبة والمعقدة لم تعد تدور في المسارح بين الجيوش، بل تدخل من النوافذ والأبواب إلى غرف النوم، وتستخدم فيها أسلحة فائقة الذكاء تصل إلى الأهداف في جنح الظلام،
ولا تفرق بين عسكري ومدني، بل إن حروب هذا الزمان قاسية ومؤلمة وسريعة على الخرائط التي اعتادت طوال مئات السنين على حروب الميادين المفتوحة.
إن المتأمل في أحوال الشرق الأوسط، يتأكد أنه لم يعد في قوس الصبر منزع، وأن الشرق الأوسط يرفع صوته عالياً: كفى أن نكون ميداناً للرماية وساحة للحروب، فقد بلغ أنين الخرائط مداه،
وبات تبريد الصراعات معبراً إلزامياً لكي تستطيع الشعوب الاستمرار في التنفس،
وقد أستعير هنا عبارة الأميركي جورج فلويد حين قال: «دعني أتنفس يا رجل»، فالشرق الأوسط هنا لا يريد أن يكون جورج فلويد، ولكنه فقط يريد أن يحيا بكرامة وعدالة ويساهم في الحداثة المعاصرة على قدم المساواة مع جميع الأمم الحية.
جمال الكشكي