
أمريكا في سبع حلقات
لو تمّ تغيير اسم روجر آيلز في مسلسل «الصوت الأعلى، «The Loudest Voice، واستخدام اسم دونالد ترامب في السياق الدرامي للعمل، لما تغير الكثير،
ولو تمّ استبدال الشبكة التلفزيونية (فوكس نيوز) التي تدير الأحداث، وتدور فيها، ووضِع اسم «أمريكا» مكانها، كدولة وشبكة كونية، لما تغير شيء.
لا تختفي صورة ترامب خلال المشاهَدة عن ذهن المُتابِع، وقد أدّى راسل كرو دور رجل الإعلام الجشع السمين المتسلط المنفلت، الساحق لكل القوانين والقيم،
كما لا تختفي صورة «أمريكا اليوم» بشكل خاص أيضًا،
ولعل الفترة الماضية التي شهدها العالم وهو يتابع قريحة الجنون وهي تفيض بأقوال وأعمال لا تخطر بالبال، قام بها الرئيس، صورة بليغة لمسلسل بليغ في جرأته وفي تتبّعه لكل أشكال الفساد وحُمَاته،
وفي فضحه لشخصية تتجاوز معناها الفرديّ إلى الجماعيّ، الرامي إلى تعميم الأكذوبة والسيطرة على عقول البشر بإعلام لا يشبه الإعلام بقدر ما يشبه التّرهيب واغتيال العقول واللعب على الغرائز ونشر الخوف من كل مختلف،
رأياً كان أو فرداً، وبثّ الذعر بشأن النقاء الأمريكي (الأبيض)، والتحكّم في كل كلمة يمكن أن تقال على الهواء، بحيث تتمّ السيطرة على الرأي العام بكل ما يعنيه الصوت العالي من فوقية ونشر للذعر وإثارة للمخاوف الدفينة في القطيع.
لا شيء يحدث صدفة في شبكة فوكس نيوز، كما لا شيء يحدث في أمريكا، وإن كان من فرق بين «الشبكتين» هنا، فهو أن الأولى مكرسة لاحتلال العقل الأمريكي لتُنجب من يستطيع احتلال أمريكا والعالم،
أما الثانية فهي الصورة الأوسع لتركيع العالم كله، بالصوت العالي أيضاً، وبحاملات الطائرات والطائرات الخفية وصواريخ كروز والقنابل المخصصة لاختراق الأعماق، ورئيس لا تستطيع الشياطين أن تتنبأ بردود فعله، أو ما يمكن أن يتّخذه من قرارات أو يقوله من كلام.
قناة فوكس نيوز، نموذج مذهل في تمثيله للجوهر الأمريكي المتغطرس الذي يجتاح كل شيء وهو يتفنّن في شيطنة المختَلِفين وتأليه الفاسدين وهو يصوّرهم منقذين لأمريكا والعالم، وخلف ذلك كله بالتأكيد ممول جشع، (ميردوخ)، الذي قد يغضب أحياناً لسبب شخصي يطال ابنه، لكنه سيتجاوز هذه الكرامة حين يُذكِّره روجر، العقل المدبر للقناة وواضع سياستها، أن القناة تربح.
هذا المسلسل القصير بحلقاته السّبع هو عمل استثنائي بالغ الجرأة، أدى فيه راسل كرو واحداً من أفضل أدواره بعد سلسلة من الأفلام التي لا ترقى مطلقًا لإبداعات صاحب «سندريلا مان» وعقل جميل» و»غلادييتر»،
هو الحاضر بقوة بل بسطوة في كل مشاهد العمل، حتى تلك التي يغيب عنها، حيث نرى حطام البشر الذين أتعسهم الواقع بأن يكونوا ضحاياه الصامتين، أو المدمَّرين، أو من حاولوا تمرّدًا يشبه الهرب أكثر مما يشبه المواجهة،
دون أن يفقدوا شرف الرّفض، وكلها صور يمكن تتبعها يومياً في القرارات التي يتخذها «بطل» المسلسل الأكبر «أمريكا»، ترامب، مثل القرارات التي تعصف بجامعات ومؤسسات علمية وقانونية، وإعلامية، وشخصيات عامة، وهجمات بذيئة أحياناً، مستهدفةً كل من لا يروق له، وصولاً إلى «الصوت العالي» الذي لا يتوقف عن إطلاقه ضد المرشح الشاب، زوهران، الذي يخوض معركة للوصول إلى رئاسة بلدية نيويورك.
ودائماً، ما لا يحقّقه الصوت العالي يحققه فعل يتلوه، كما حدث حين تمّ اجتياح الكونغرس محلياً، واجتياح المشروع الإيراني خارجيًّا بناء على أوامر إسرائيلية، والرّضى المطلق عمّا يقوم به مجرم الحرب نتنياهو في غزة ولبنان وسوريا وإيران.
وقبل هذا، وكمثال، نجد تغطية الشبكة لأحداث 11 سبتمبر، التي تم تحويلها إلى فرصة لزرع الخوف من الآخر، وتبرير الحروب الخارجية، وتمرير أجندات داخلية تقوّض الحقوق المدنية باسم الأمن القومي، وتمهّد الطريق لغزو العراق وتدميره، عبر الدور القذر الذي قامت به «فوكس نيوز».
وإذا ما وصلنا إلى الواقع الشخصي لروجر هذا، هو الذي روّج عبر الشبكة لترامب منذ دورته الرئاسية الأولى، ووقف معه، فهو صورة حقيقية لترامب نفسه،
كما تمّت الإشارة في البداية، فهو المتغطرس الذي يتصرف باعتباره فوق القانون، وهو المُطارَد بقضايا التحرش لموظفات المحطة، والفساد بكل أشكاله، والمتهرِّب من كل هذه التهم التي تطارده.
حتى على مستوى تكوين الشخصية، يبدو روجر وترامب صورة متقنة واحدة لشخصين.
نحن أمام شخصيتين تعرفان الهدف بدقة، وتتقدمان نحوه غير عابئتين بعدد الضحايا، مستخدمتين كل الوسائل الشعبوية لإيجاد واقع إعلامي يشبه الطوفان من أجل الوصول إلى مصالح محددة بإتقان،
بحيث كان الكذب في الرحلتين عاملاً مركزيّاً للوصول إلى نتائج مرسومة، باستخدام التهويل وخلق الأعداء تمهيداً لسحقهم، عبر طرق ملتوية تُعمي المشاهد المحدق إلى الشاشة لتسوقه مذعناً للقبول بما يقاله له، وعلى الجهة المقابلة لا مصير غير الدمار لمن يخالفها أو يتمرّد عليها.
في هذا الواقع السوداوي الذي يبدو كما لو أنه واقع ما بعد سلطة «الأخ الأكبر» يحمي الفساد نفسه بإخفاء تورّطه، ما يجعل الفساد قوة مطلقة، ويبتز الجمهور العريض، ويستخدم الخرس العام مظلّة لتحقيق مآربه، والإفلات من أي عقاب يترصّده.
في تغطي فوكس نيوز لأحداث الحادي عشر من سبتمبر، نموذج بارز في تقويض أسس الحقوق المدنية وفي شيطنة أوباما (المُهَدِّد للهوية النقية الأمريكية!) لأغراض سياسية داخلية، بالترويج أنه مسلم، والحرص على أن يكون اسمه باراك حسين أوباما،
بإضافة اسم أوسط، ثم الترويج لخطاب كراهية المهاجرين، والمسلمين، والأصوات المعارضة، بهدف ترسخ صورة «أمريكا الأعظم»، وهذه كلها صور ماثلة أمام أعيننا اليوم، واقعيًّا، في المسلسل الأكبر الذي يدعى «أمريكا».
وبعـــد:
ليس مسلسلاً هذا بل مرافعة شجاعة من الكشف، تفضح كابوساً رهيباً يجثم لا على ليل العالم فحسب، بل على كل دقيقة من دقائق نهاره.
إبراهيم نصر الله