
دمشق وتل أبيب.. فرص التطبيع وحدود التنازلات
يعود التطبيع بين "إسرائيل" وسوريا مجدداً إلى صدارة المشهد، مع تصريحات متوالية لمسؤولين أمريكيين وآخرين إسرائيليين وسوريين، يستعرضون فرص وشروط التوصل لاتفاقية سلام بين الجانبين اللذين لطالما اتسمت العلاقة بينهما بالعداء.
فمع سقوط نظام الأسد، سادت في تل أبيب حالة من عدم اليقين تجاه الحكومة الجديدة في دمشق، وتصرفت حكومة الاحتلال بطريقة مستفزة، مدشنةً حرباً من طرف واحد على سوريا، إلا أن الإدارة السورية حافظت على هدوئها في وجه هذا التغول الإسرائيلي.
هذا الهدوء الاستراتيجي الذي اتبعته دمشق، وحرصها على عدم الدخول في صراع مع "إسرائيل" وانشغالها بتضميد جراحها، ومعالجة مخلفات الحرب وملفاتها الداخلية، خلق توقعات وحالة من الطمأنينة إقليمياً، وقبولاً غربياً،
فما مدى إمكانية السلام بين دمشق وتل أبيب، وما حدود التنازلات المطلوبة من الطرفين.
شرط إسرائيلي
لا تخفي "إسرائيل" رغبتها في التوصل إلى اتفاق سلام مع سوريا وأيضاً لبنان، وهذا ما أكده وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر في مؤتمر صحفي عقده يوم الاثنين (30 يونيو)، مضيفاً: "ستبقى الجولان جزءاً من دولة إسرائيل".
وقال ساعر، إن "إسرائيل" لا يمكن أن تتفاوض على وضع هضبة الجولان في أي اتفاق سلام مع سوريا، مشيراً إلى أن لدى "إسرائيل" مصلحة في ضم دول مثل سوريا ولبنان، إلى دائرة السلام والتطبيع، مع الحفاظ على مصالحها الأساسية والأمنية.
وقبل أيام قال ساعر لقناة "آي نيوز 24" الإسرائيلية، إنه إذا توافرت فرصة لتوقيع اتفاق سلام أو تطبيع مع سوريا، فإن الأمر سيكون إيجابياً لمستقبل "إسرائيل" شريطة بقاء الجولان تحت سيطرة الاحتلال.
القناة نفسها نقلت عن مصدر سوري مطلع، قوله إن "إسرائيل" وسوريا ستوقعان اتفاقية سلام قبل نهاية عام 2025، وإن من شأن هذه الاتفاقية تطبيع العلاقات بالكامل، لافتاً إلى أن مرتفعات الجولان التي تحتلها ستكون "حديقة سلام".
المصدر السوري قال إنه بموجب الاتفاقية المرتقبة، ستنسحب "إسرائيل" تدريجياً من جميع الأراضي السورية التي احتلتها بعد غزو المنطقة العازلة في 8 ديسمبر 2024، وضمن ذلك قمة جبل الشيخ.
مفاوضات
وفي مايو الماضي، كشف الرئيس السوري أحمد الشرع، في مؤتمر صحفي بقصر الإليزيه الفرنسي، عن مفاوضات غير مباشرة تجري مع "إسرائيل" عبر وسطاء لتهدئة الأوضاع وعدم خروجها عن السيطرة.
كما كشفت مصادر مطلعة لوكالة "رويترز" أواخر مايو الماضي، أن "إسرائيل" وسوريا عقدتا لقاءات مباشرة في محاولة لخفض التوترات ومنع اندلاع صراع في المنطقة الحدودية.
ولطالما أكدت القيادة السورية في أكثر من مناسبة، أن سوريا لن تشكل تهديداً لأي طرف خارجي، وضمن ذلك "إسرائيل"، لكن دولة الاحتلال ظلت متوجسة من دمشق،
واستمرت في سياساتها التوسعية في الجولان والقنيطرة ومناطق أخرى جنوب البلاد، فضلاً عن قصف مكثف في مناطق سورية.
وتحدث المبعوث الأمريكي الخاص إلى سوريا توماس باراك، مؤخراً، عن محادثات تجري "بهدوء" بين الإدارة السورية الجديدة و"إسرائيل" حول جميع القضايا.
رؤية أمريكا
المبعوث الأمريكي قال لقناة "الجزيرة"، إن حكومة الشرع لا تريد الحرب مع "إسرائيل"، داعياً إلى إعطاء فرصة للإدارة السورية الجديدة.
وتلعب الولايات المتحدة الأمريكية دوراً محورياً في تهيئة الأجواء لاتفاق بين دمشق وتل أبيب، وتظهر إدارة الرئيس دونالد ترامب اهتماماً بنظام الحكم السوري الجديد، باعتباره مؤهلاً لإحلال السلام في سوريا، بعد التخلص من عقدة النفوذ الإيراني والروسي هناك.
وفي وقت سابقٍ هذا الشهر، نقل موقع "أكسيوس" الأمريكي عن مسؤول إسرائيلي، قوله إن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، طلب من مبعوث الرئيس الأمريكي إلى سوريا، أن تتوسط واشنطن في مفاوضات مع دمشق.
ووفق المسؤول الإسرائيلي، فإن نتنياهو يسعى إلى اتفاق أمني مع سوريا، وصولاً إلى اتفاق سلام شامل، مشيراً إلى تواصل غير مباشر تم مؤخراً برعاية تركية بين الجانبين.
اتفاق أمني
ورغم المفاوضات غير المباشرة بين سوريا و"إسرائيل"، والمستمرة على ما يبدو، فإن دمشق ليست جاهزة كما يبدو للتوصل إلى اتفاق دائم مع تل أبيب، وفق مصادر سورية قريبة من الحكومة تحدثت لصحيفة "الشرق الأوسط".
المصادر قالت إن سوريا تطالب بوقف الاعتداءات والتوغلات الإسرائيلية داخل الأراضي السورية، والعودة إلى اتفاق 1974، في حين تريد "إسرائيل" إنشاء منطقة عازلة، مرجحةً أن يتم التوصل إلى اتفاقية أمنية جديدة، تُمهّد لاتفاق سلام شامل مستقبلاً.
وقالت المصادر إنه من المستبعد أن يتم التوصل إلى اتفاق دائم، لكنها لم تنف أيضاً إمكانية التوصل إلى اتفاق أمني يمهد الطريق لسلام دائم أو الالتحاق بالاتفاقات الإبراهيمية، وسط تعويل سوري على دور عربي يحافظ على السيادة السورية.
ولفت الباحث السوري وائل العجي ، إلى أن السلام الشامل مع "إسرائيل" مسألة سابقة لأوانها حالياً، مشيراً إلى أن هناك أولويات أخرى أكثر إلحاحاً لدى الحكومة السورية الجديدة.
"لا تطبيع فورياً"
ويؤيد هذا الطرح، الدكتور سمير العبد الله، مدير قسم تحليل السياسات في مركز "حرمون" للدراسات المعاصرة، والذي قال إنه من الممكن التوصل إلى اتفاق بين الطرفين، لكن هذا لا يعني التطبيع الفوري.
وقال العبد الله : "أعتقد أنه يمكن التوصل إلى اتفاق بين الطرفين، ولكن من المهم أن نفهم أن الاتفاق لا يعني التطبيع الفوري، فالتوصل إلى تطبيع العلاقات يتطلب حل عديد من الملفات المعقدة، على رأسها ملف الجولان، الذي لا يزال يشكل نقطة خلاف جوهرية".
واستطرد العبد الله قائلاً:
في الوقت الحالي، تواجه سوريا تحديات ضخمة بعد سنوات من الحرب، والدمار الذي حلّ بها، وبالنظر إلى الوضع الراهن، فإنه من الضروري أن تمر البلاد بفترة من الهدوء والاستقرار،
وهذا لا يأتي إلا من خلال إعادة بناء البنية التحتية وتنشيط الاقتصاد وجذب الاستثمارات، وهذا بدوره سيفتح المجال أمام المشاركة في أي اتفاق قد يُعقد مع الجانب الإسرائيلي.
وعلى الرغم من أن الاتفاق بين سوريا وإسرائيل قد يكون في البداية سرياً أو مبدئياً، فإن هناك عديداً من الوساطات الإقليمية والدولية التي تعمل بين الطرفين، وهي وساطات يمكن البناء عليها للوصول إلى تفاهم يضع حداً للانتهاكات الإسرائيلية في الأراضي السورية.
هذا الاتفاق قد يتضمن أيضاً إعادة تفعيل دور قوات الأمم المتحدة كقوات فصل بين الطرفين، وهي خطوة قد تساعد في ضمان عدم تصعيد الوضع الأمني.
التغيرات الإقليمية
ويرى مدير قسم تحليل السياسات في مركز حرمون للدراسات المعاصرة، أن التحولات الإقليمية التي تحدث في المنطقة، ستكون لها تأثيرات كبيرة على القرار السوري في ملف السلام مع "إسرائيل".
وأشار إلى أن "التغيرات السياسية في الشرق الأوسط أثبتت أن هناك قلة من الدول التي لم توقع اتفاقات مع "إسرائيل"، خاصةً السعودية وسوريا،
وهذا يعني أن المنطقة مقبلة على تغييرات قد تفرض واقعاً جديداً، ولا بد لسوريا من التفكير في هذه التحولات ضمن استراتيجيتها المستقبلية"، حسب قوله.
وقال العبد الله: "إذا تم التوصل إلى اتفاق سري بين سوريا وإسرائيل في هذه المرحلة، فمن المحتمل أن يكون بمثابة خطوة نحو عملية تطبيع تدريجي".
ولفت إلى أن "التطبيع الكامل قد يكون في مرحلة لاحقة، بعد أن تمر الدول العربية الأخرى بتطبيع كامل مع إسرائيل، لذلك، فإن التوصل إلى هذا الاتفاق قد لا يكون بداية النهاية، ولكنه قد يمثل البداية لمستقبل من الاستقرار النسبي في المنطقة".
وبيّن أن الولايات المتحدة ستكون العامل الرئيسي في رعاية أي اتفاق بين سوريا و"إسرائيل"، خاصةً أن الولايات المتحدة تعتمد على الحكومة السورية لضبط الأوضاع الداخلية في سوريا.
وأضاف: "كما أن أمريكا تمتلك أوراق ضغط قوية، مثل ملف العقوبات الاقتصادية وفتح الباب للاستثمارات التي تعتبر ضرورية لإعادة إعمار سوريا، من جهة أخرى".
وأكد الباحث السوري، أنه سيكون من الضروري أن تلعب الإدارة الأمريكية دوراً حاسماً في الضغط على "إسرائيل" للالتزام بأي اتفاق قد يتم التوصل إليه، لضمان استمراريته ونجاحه.