هدانا هدهد وفرقنا فأر وقادتنا راية وخدعتنا صرخة
إنها جملة تختزل مأساة اليمن اليوم، وتطرح تساؤلاً مؤرقًا: كيف لأرض الحضارات، التي طوّعت الجبال والصحارى، وبنت السدود الشاهقة، وشيدت القلاع الحصينة، وقادت الجيوش الفاتحة، أن تتعثر وتُقاد بأشياء تبدو في ظاهرها "صغيرة" وهشة؟
تاريخ اليمن ليس مجرد صفحات تُروى، بل هو سجل حافل بالعظمة والإنجازات.
اليمنيون، أولوا القوة والبأس الشديد، كانوا يتحدون كل من في الأرض بقوتهم وشموخهم.
وصل بهم الحال إلى عبادة الشمس، كرمز للقوة والنور الذي كانوا يرونه في أنفسهم. لكن الحكمة اليمانية، التي طالما عُرفوا بها، تجلّت في موقف فريد يبرهن كيف أن الهداية أتتهم من "صغير"؛ هدهد كان سببًا في تحولهم من ظلام الشرك إلى نور التوحيد.
هذا الموقف يجسد عمق إدراكهم وقدرتهم على تمييز الحق حتى لو جاء من مصدر غير متوقع، مؤكدين أن اليمنيين هم أهل الحكمة التي تستمع وتتأمل، حتى في "صغائر" الأمور.
لكن المفارقة الموجعة تكمن في أن هذه القوة الباسلة، وهذا البأس الشديد، وهذه الشجاعة المتجذرة في النفوس، قد أغفلت "الصغائر" التي لم تُلقِ لها بالًا في زمننا هذا. كم هو صادق المثل القائل: "الإنسان يتعثر بالأحجار الصغيرة لا الكبيرة".
الأحجار الكبيرة تُرى بوضوح، فيتجنبها المرء بحذر، أما تلك الصغائر التي لا تكاد تُرى، فقد تكون سببًا لوقوعه وانكساره. وهكذا اليمن، لم تُقده الجيوش الغازية، ولم تسقطه الإمبراطوريات العظمى، بل تهاوى أمام شرر صغائر لم تُعتبر خطرًا داهمًا.
لقد انخدع اليمنيون اليوم برايات زائفة، تقودهم شعاراتها إلى الموت، بينما هم من بنوا الحياة وعمّروها. فكيف لمن ينادي بالموت أن يصنع الحياة أو يقود إليها؟
وكيف يُمكن لقوم عُرفوا بالحكمة أن يتبعوا رايات لا تحمل إلا الدمار؟
وخدعتنا "صرخة"، مع أن الصراخ نفسه مكروه ومُستنكر في الطبيعة البشرية والآداب، فـ"إن أنكر الأصوات لصوت الحمير".
فما هو الفرق بين هذه الصرخات العدوانية التي تُطلقها جماعات معينة وبين نهيق الحمير الذي يُوصف بالنكارة والقبح؟
كلاهما صخب بلا حكمة، ضجيج لا يحمل إلا الفراغ والخراب. لم يُدرك الكثيرون أن هذه "الصغائر" هي ذاتها التي تُشعل حرائق الغابات المستعرة؛ شرارة صغيرة تبدو غير ذات أهمية، لكنها تتحول إلى جحيم يأكل الأخضر واليابس.
كيف سمح أحفاد ملوك حمير، وبناة السدود، وقادة الفتوحات، لهؤلاء "عوالق التاريخ"، "شذاذ الآفاق"، أن يأتوا ويتحكموا برقابهم، وأن يُفرقوا صفوفهم، وأن يزرعوا الفتنة بين أبنائهم؟
هذا هو السؤال الذي يجب أن يدوي في كل أرجاء اليمن، من صنعاء إلى عدن، ومن تعز إلى حضرموت. إن غياب اليقظة تجاه الصغائر، والاستهانة بقوة الشرر، هو ما فتح الباب أمام هذه النكسة.
اليمن لن يستعيد مكانته وشموخه إلا إذا أدرك أبناؤه أن العدو الحقيقي قد لا يكون في جيش عرمرم قادم من بعيد، بل قد يكمن في شعار خادع، أو صرخة مضللة، أو فتنة صغيرة تُزرع بين الأخوة.
آن الأوان لتتجاوز اليمن هذه المرحلة الحرجة، لتتعلم من تاريخها العظيم، ولتُدرك أن بناء الأوطان لا يتم إلا بالوحدة والتكاتف، واليقظة الدائمة تجاه كل ما يمكن أن يعثر مسيرتها، مهما بدا صغيرًا أو غير ذي أهمية.
فليكن الوعي هو راية اليمن الجديدة، وليكن الالتحام هو سدها المنيع ضد كل ما يُفرّق ويُدمّر.