اليمن: صلاةٌ مُعلّقة في عنق الزمان
هناك أوطان تُولد من رحم السياسة وتصاغ على موائد المفاوضات، وتُكتب قوانينها بأقلام الحكام.
وهناك أوطان تنبت من تراب المعاناة، من دمع الأمهات الذي يروي الأرض فيثمر عزيمة، ومن شقوق الأقدام التي تسير فوق الحصى لتصنع طريقًا، ومن وجع طويل اسمه الحياة بلا عدالة.
واليمن… هو كل ذلك، وأكثر.
هذا الوطن ليس مجرد جغرافيا على خارطة، بل صلاة مُعلّقة في عنق الزمان، تُتلى في السر والعلن، لا يقطعها يأس ولا ينهيها وجع.
ليس تاريخًا يُحكى في كتب عفا عليها الزمن، بل نَفَسٌ طويل في صدر الشعوب المنسية، يتجدد مع كل فجر، ويقاوم مع كل غروب.
كلما حاولوا دفنه تحت أنقاض الحروب، خرج من موته أكثر حياة. وكلما أحاطوه بالجوع والسلالة والخرافة، تفجّر من داخله نورٌ يضيء دروب المحاصرين، كأن الله يسكن فيه حين يغيب عن البقية.
أنا لا أكتب عن اليمن لأبكي على ما فات، بل لأفهم ما هو باقٍ.
لماذا كل هذا الصبر الذي لا ينضب؟
لماذا لا يموت، رغم أن كل أسباب الموت متوفرة: القصف، والحصار، والأوبئة، والخذلان؟
ثم أفهم: لأن اليمني لا يتنفس هواءً، بل كرامة. يأكل وجعه بالملح ليصبح مذاقه مرارةً تزيد من صلابته، ويشرب ماضيه بالحسرة ليذكر دائمًا من هو، ثم ينهض. دائمًا ينهض.
نحن أبناء الحصار، نعم. لكن الحصار عندنا لا يصنع الانكسار، بل يصنع الحيل التي تفتح أبوابًا من العدم، والابتكار الذي يولد من رحم الحاجة، والأمل الذي يُكذب الواقع ويُعيد رسمه.
في بلادي، الجدران لا تُسجن، بل تحفظ الأصوات وتخبئ الأسرار. والفقر لا يذل، بل يُربّي الكبرياء ويزيد الإنسان ثقةً بنفسه.
أنا، عبدالله الشرعبي، ابن هذا البلد الجبليّ الذي لا ينحني أمام عواصف الزمان،
أكتب بمداد الحزن الذي لا يكسرني، وبحنينٍ لا يذلني، لا لأُثير عاطفتكم، بل لأذكّركم:
أنّ هناك شعبًا يُذبح منذ سنوات، لكنه يزرع في كل شبر من أرضه حلمًا.
يُقصف كل يوم، لكنه يغني أغانٍ تجعل قلبه أقوى من الفولاذ.
يُخذل من الأقربين والأبعدين، لكنه لا يخذل ترابه.
اليمن ليس فقيرًا كما يظنون… هو غنيّ بناسه، بعزة أطفاله التي لا تنكسر، بجراح نسائه التي تلملم شتات الوطن، بجنديّ لم يقبّل أمه منذ سنتين لأنه على الجبهة، بعاملٍ يستدين ليعلّم ابنته أن العلم كرامة، بشابٍ يحلم أن يبني وطنًا من لا شيء، لأنه لم يملك في حياته شيئًا إلا الحلم.
لا نحتاج الشفقة، بل نحتاج الاعتراف.
أن هذا الوطن المصلوب على حدود الجغرافيا، هو الرغيف الذي يخبزه الله حين يجوع الكون إلى معنى الصبر.
وأن هذا الشعب، حين تنهار الأمم، سيكون آخر من يسقط… وربما أول من ينهض.