في تحوّلات الصراع بين إسرائيل وجماعة الحوثي
في تحول مفصلي في مسارات الصراع البيني، تدخل المواجهة بين الكيان الإسرائيلي وجماعة الحوثي مرحلة جديدة من حيث نطاقات الهجوم وأهدافه العسكرية والسياسية، وفي حين تتحرّك معادلتا الردع والإسناد على وقع تصاعد حرب الكيان الإسرائيلي على قطاع غزّة وتطوراتها، فالأكيد أن اليمن بات ساحة رئيسية في مواجهة لا يمكن التكهّن بمساراتها ولا بنتائجها.
في صراع إسرائيل مع جماعة الحوثي، اقتضت ضرورات المرحلة اتخاذ تدابير أكثر شمولية لحسم معادلة الردع ضد الجماعة أو على الأقل تحسينها؛
إذ إن تحوّل المسألة الحوثية إلى معضلة سياسية بالنسبة لإسرائيل، تعوق تركيزها في حرب السيطرة العسكرية على قطاع غزّة، وتدمير حركة المقاومة الإسلامية (حماس)، بما في ذلك حسم هيمنتها إقليمياً،
أطاح استراتيجية تقييد الجماعة عسكرياً، بشنّ ضربات تطاول البنية الاقتصادية في المناطق الخاضعة لها، التي شكلت عماد سياسة إسرائيل في اليمن.
كما أن استمرار استهداف الجماعة العمق الإسرائيلي، ضاعف من الضغط على الجبهة الداخلية الإسرائيلية، على الأقل سياسياً، مقابل انتفاء الخيار الدبلوماسي لوقف تهديداتها، الأمر الذي اقتضى من القيادة الإسرائيلية تغيير استراتيجيتها في التعاطي مع الجماعة،
وهو ما اتضح في الأسابيع الأخيرة بمضاعفة الضغط العسكري على الجبهة اليمنية، بما في ذلك تفعيل شراكتها مع حلفائها الدوليين والإقليميين لردعها،
إضافة إلى توسيع بنك أهدافها في اليمن ومجالاته، فمع بقاء البنية الاقتصادية هدفاً مركزياً لإسرائيل، لتعطيل إمدادات الطاقة، مع استمرار الحصارين، البحري والجوي، على اليمن، فإنها نقلت معادلة الردع إلى مستوى جديد، وذلك بشلّ سلطة الجماعة في مرحلة أولى، عبر استهداف قياداتها،
وهو ما ظهر في الهجوم الإسرائيلي أخيراً على العاصمة صنعاء، وأسفر عن مقتل رئيس حكومة الجماعة، أحمد غالب الرهوي، وتسعة وزراء، ومستويات تنفيذية أخرى في جهاز الحكومة.
أيُّ تحوّل على صعيد إدارة معادلة الردع الإسرائيلي ضد جماعة الحوثي، والأهم اختراقها أمنياً، وفي جبهة جغرافية بعيدة كاليمن، يقتضي تحليلاً لطبيعة التحوّل الأدائي، أي العوامل التي مكّنت إسرائيل، وبعد عام من بدء هجماتها على اليمن، من اغتيال المستوى السياسي في سلطة الجماعة، ففي حين تعوق الطبوغرافيا المعقّدة والمجهولة لمدينة صنعاء تحقيق إسرائيل اختراقاً استخباراتياً،
فإن التقييدات الأمنية لقيادات الجماعة تحدّ من إمكانية لا استهدافها فقط، بل مركزة عملية اغتيالات واسعة تطال سلطتها، وإذا قارنّاها بحصيلة الحرب الأميركية السابقة على اليمن، من حيث الخسائر البشرية في صفوف الجماعة، على الأقل الأسماء المعلن عنها،
على الرغم من اتساع رقعة الحرب جغرافياً وحدّتها مع الهجوم الإسرائيلي أخيراً على صنعاء، الذي نجح في عملية واحدة بإفراغ السلطة التنفيذية التابعة للجماعة، فإنها تكشف عن تحوّل نوعي في إدارة إسرائيل للجبهة اليمنية، أي استثمار شراكتها مع فاعلين متعددين يمتلكون خبرات لوجستية في المسألة اليمنية،
إلى جانب الاستفادة من مجال جغرافي مفتوح يفتقر لسلطة سيادية وطنية تسيطر على الحدود والأجواء اليمنية، فعلى مستوى أولي، تغذي الشراكة الأميركية - الإسرائيلية من حيث التوافق حول طبيعة التهديدات المتأتية من الجماعة تنسيق استخباراتي وعملياتي متبادل،
إذ أفضى استبعاد الإدارة الأميركية الخيار العسكري، وتفضيل سياسة العقوبات الاقتصادية، بما في ذلك إعاقة تدفقات الأسلحة من إيران إلى الجماعة، العمل على تحسين آلية الردع الإسرائيلي ضد الجماعة، أي منحها قاعدة معلوماتية تغطّي نقصها الاستخباراتي،
إلى جانب أن الحسابات الأميركية التي قيّدت فرص استهدافها قيادات بارزة في الجماعة، لتجنّب مخاطر التصعيد في المنطقة، فضلت نقل مسؤوليتها إلى إسرائيل التي لا تحفل بتداعيات تصعيد حروبها،
إضافة إلى حاجتها لنصر عسكري ضد الجماعة. وعلى مستوى آخر، فإذا كانت التمثلات الأيديولوجية لجماعة الحوثي، بما في ذلك تهديدها الملاحة في البحر الأحمر، قد حقّقت مستويات من التقارب بين إسرائيل وبعض الدول المجاورة لليمن، مكّن إسرائيل من استخدام مجالها الجوي، لتنفيذ هجماتها في اليمن، فإن العلاقة التحالفية بين إسرائيل والإمارات، التي تتوافق ليس حول المسألة الفلسطينية فقط،
بل وبخصوص جماعة الحوثي، دفعت التنسيق البيني إلى شراكة أمنية وعسكرية.
وإذا تجاهلنا استباق العملية العسكرية الإسرائيلية أخيراً في صنعاء، بزيارات لمسئولين أمنيين إسرائيليين على مستويات عليا لدولة الإمارات، بما في ذلك تحشيد إماراتي رسمي لتصعيد الحرب في اليمن، فإن التوافق الإسرائيلي - الإماراتي حول ضرورة معالجة تهديدات الجماعة وبشكل جذري اقتضى استثمار أدوار الطرفين ووظائفهما لتحقيق الغاية نفسها،
ففي مقابل مركزية، هدف القضاء على الجماعة، بالنسبة للإمارات، سواء لأسباب تتعلق بموقفها من المقاومة الفلسطينية، أو لحساباتها السياسية في المسألة اليمنية، التي تعني إسناد إسرائيل بآليات متعددة، فإن إسرائيل تستثمر الحضور الإماراتي العسكري المباشر في السواحل والجزر اليمنية من جنوب اليمن وشرقها إلى غربها، لاختراق البنية العسكرية والسياسية للجماعة، يُدعمه النشاط العسكري الإسرائيلي في الضفة الأفريقية لباب المندب، ومن ثم تحتاج إسرائيل،
ومع تفوّقها العسكري على الجماعة، لشبكة تحالفاتها لتحقيق انتصار عسكري ضدّها في الوقت الحالي وفي المستقبل.
إلى ذلك، تستند إدارة الصراع مع إسرائيل بالنسبة لجماعة الحوثي إلى زخم التموضع عسكرياً وسياسياً، قوة إسناد وحيدة للمقاومة الفلسطينية في قطاع غزّة، وكذلك التماهي مع تحوّل اليمن إلى جبهة لتنفيس الضغط، سواءً بالنسبة لحليفها الإيراني أو لإسرائيل، تصعيداً أو تهدئة، وتأدية وظيفتها تبعاً لهذا الدور ومقتضياته، بحيث فرض ذلك على الجماعة تبنّي استراتيجية ثابتة، تتمثل بتصعيد هجماتها ضد إسرائيل ومصالحها في الممرّات البحرية التي تطلّ عليها،
والتي انتقلت بعد الهجوم الإسرائيلي على صنعاء، إلى مستوى جديد تمثل بمضاعفة عملياتها العسكرية، التي ارتفعت بوتيرة شبه يومية، استهدفت نطاقاتٍ وبنى حيوية، شملت موانئ ومطارات ومدناً عديدة في الأراضي المحتلة،
إضافة إلى تعطيل الملاحة الإسرائيلية في البحر الأحمر، ووضع سفنها التجارية تحت طائلة هجمات الجماعة، جديدها أخيراً استهداف ناقلة كيماوية في شمال البحر الأحمر، إلى جانب تنويع أدواتها العسكرية في عملياتها العسكرية، من الطائرات المسيّرة والصواريخ الباليستية إلى الصواريخ العنقودية، أخيراً، بحسب ما أعلنت عنه الجماعة. وبالتالي، استمرار تمسّكها بخيار التصعيد العسكري، وفي مسار ثابت.
ومع أن هجمات الجماعة أخيراً، وفي ظل الإبادة الجماعية المستمرّة التي ترتكبها إسرائيل في قطاع غزّة، وحالة العجز العربي، مكّنت الجماعة من استثمار عملياتها لتحسين موقعها في معادلة الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي، فإن توعد القيادة الإسرائيلية بتوسيع معركتها في اليمن يضع الجماعة في مأزقٍ عسكري وسياسي إضافي، لا من حيث فعالية أدواتها العسكرية لتحسين معركة إسنادها فقط، بل على نتائج صراعها مع إسرائيل في الساحة اليمنية.
من نواحٍ عدة، كشف الهجوم الإسرائيلي على صنعاء، أخيراً، معادلة غير متكافئة من حيث القوة العسكرية، إلى جانب تداعياته على المشهد المحلي، بما في ذلك على سلطة الجماعة، فعلى المستوى الأمني، أكّد اغتيال إسرائيل المستوى السياسي في سلطة الجماعة (حكومة الأمر الواقع) انكشافها أمنياً، ومن ثم تفتيت سردية انغلاقها على إسرائيل، بحيث ألقى بثقله على الجماعة، وعلى قاعدتها الشعبية.
وعلى المستوى السياسي، فرض مقتل قيادة الحكومة تحدّياتٍ أكثر جذرية على الجماعة من حيث بنية سلطتها السياسية المقبلة، إلى جانب كيفية إدارتها حالة الفراغ السياسي الحالي في المناطق الخاضعة لها، وامتصاص الضربة الإسرائيلية. سياسياً أيضاً،
أكّدت ردات الفعل الدولية والإقليمية على مقتل وزراء حكومة الجماعة عزلتها السياسية، إذ جرى التعاطي مع الجريمة بأنها حادثة طاولت بنية الجماعة، لا استهداف اليمن واليمنيين من العدو الإسرائيلي.
ومن جهة ثانية، ضاعف قمع الجماعة شركاءها، وأيضاً المجتمعات الخاضعة لها، بما في ذلك حربها في اليمن، من حالة الانقسام السياسي في وسط النخب اليمنية، ومن ثم تبرير جرائم إسرائيل في المدن الخاضعة للجماعة، يضاف إلى ذلك أن تعاطيها مع الجريمة كشف وعيها الانغلاقي وقصورها في استيعاب مفهوم الدولة والسلطة، حتى في أبسط مظاهره، والتي تعني تكريم رموز السلطة ممن قضوا في الجريمة الإسرائيلية،
وهو ما برز في مراسم تشييع القتلى التي ظلت دون المستوى، مقارنة بتنكيس الجماعة العلم الوطني في مقتل قيادات من معسكر حلفائها الإقليميين، ما شكّل صدمة لحلفائها في السلطة وأيضاً لجبهتها الداخلية.
ومع أن الجماعة، وكالعادة، ومع أي تهديد يطاولها، توسّع من اعتقالاتها العاملين في المنظّمات الدولية للهروب إلى الأمام، فإن نتائج إسرائيل أخيراً في اليمن، والتي ربما لن تكون الأخيرة، تقتضي من الجماعة مراجعة جذرية لاستراتيجية حربها ضد إسرائيل،
والأهم تقدير المخاطر المترتبة على حياة اليمنيين من جبروت قوة متجبرة كإسرائيل لا تحفل بإغراق اليمن والمنطقة في حروبها الدموية.
* كاتبة وناشطة يمنية