وصفة للوعي: نحو فلسفة جديدة لليمن
في اليمن، لا يكمن الداء في الأرض الجدباء، ولا في الجبال الشاهقة، بل في العقول التي أرهقتها قرون من التيه والتبعية.
إن ما آلت إليه البلاد ليس مجرد نتيجة صراعات سياسية أو مطامع خارجية، بل هو ثمرة مرة لتربة فكرية أُهملت عمداً حتى صارت لا تنبت إلا شوك الجهل والتعصب.
لقد حُرمت أجيال من التفكير المنطقي، وعُلِّمت أن الانقياد فضيلة، وأن التساؤل عن الأسباب هو خروج على المألوف، وأن الماضي بكل أخطائه هو قيد يجب ألا يُفلت منه.
إن اليمن اليوم بحاجة ماسة إلى فلسفة جديدة، فلسفة تنبع من واقعها المرير، لا لتبريره، بل لتفكيكه وإعادة بنائه. فلسفة لا تعني الترف الفكري، بل هي ضرورة وجودية، كالهواء والماء.
إنها وصفة طبية لعقل مجتمع أُصيب بالوهن. فكيف يمكن لشعب أن يتحرر وهو يرى العالم من خلال عدسات أصحاب المطامع والمصالح؟ كيف له أن يرفض التبعية وهو لم يتعلم قط كيف يفكر بذاته؟
لقد قادت سياسات التجهيل المتعمدة، التي يمارسها الموتورون وأصحاب السلطة، الشعب اليمني إلى هذا المنعطف الخطير.
استغلوا الإرث الاجتماعي المليء بالطبقية والتراتبية، وغذوا الانقسامات، ليس لأنهم يؤمنون بها، بل لأنها وسيلة لتقسيم وتشتيت الشعب.
لقد أدركوا أن الشعب الموحد بوعيه وإدراكه هو قوة لا يمكن السيطرة عليها. لذلك، عملوا بجد على تدمير التعليم، وتهميش الفكر النقدي، وترسيخ ثقافة الشفاهية التي تعتمد على تلقين الشعارات بدلاً من فهم الحقائق.
إن التحرر الحقيقي لا يبدأ من الحدود أو من صناديق الاقتراع، بل من العقل. هو عملية تطهير فكري، وتصالح مع الذات، وفهم عميق للواقع.
علينا أن نعيد تعريف الهوية اليمنية بعيداً عن أساطير الماضي التي لم تعد تخدمنا، وأن نؤمن بأن المستقبل هو ما نصنعه بوعينا وليس ما يرثه من آبائنا.
هنا يبرز دور الوعي الفلسفي والمنطقي. إنهما أدواتنا للتغيير. الفلسفة ليست مجرد حكمة نظرية، بل هي القدرة على طرح الأسئلة الصحيحة: لماذا نحن هكذا؟ من المسؤول عن هذا الوضع؟ وهل يمكننا أن نكون أفضل؟
أما المنطق، فهو البوصلة التي توجهنا في بحر الأفكار المتلاطمة، لنميز بين الحقيقة والزيف، وبين ما هو لمصلحة الوطن وما هو لمصلحة فرد أو فئة.
ولتحقيق هذا التغيير، يجب علينا أن نفكر في أدوات جديدة، لا تقتصر على المؤسسات التقليدية التي فشلت. هنا يأتي اقتراح بإنشاء مؤسسة للدراما.
إن الدراما ليست مجرد تسلية، بل هي مرآة للمجتمع، وأداة قوية للوعي. يمكن لمؤسسة كهذه أن تحل محل المنابر التي تكرس الجهل. يمكنها أن تقدم أعمالاً فنية تعالج قضايا الفقر، والطبقية، والفساد بطريقة حقيقية ومؤثرة.
يمكنها أن تكسر حاجز الخوف من التساؤل، وأن تظهر للناس أن الأفكار التقليدية السائدة يمكن أن تكون قيوداً بدلاً من أن تكون قيماً.
تخيل مسلسلاً يفكك الأسباب الحقيقية وراء الفقر، لا ليقدمه كقدر محتوم، بل كمشكلة يمكن حلها. تخيل فيلماً يروي قصة شاب يمني يكسر حلقة التبعية، ويفكر بنفسه، ويصنع مستقبله.
إن مثل هذه الأعمال الفنية هي التي تغرس في العقول بذور التغيير، وتلهم الشباب أن يكونوا قادة لوطنهم، لا مجرد تابعين.
إن طريق الخلاص ليس سهلاً. إنه رحلة طويلة وشاقة تتطلب شجاعة فكرية وصبر. لكنها الرحلة الوحيدة التي تستحق أن تُخاض. فبدون الوعي، لن تتحقق الحرية.
وبدون الفلسفة، لن يرى العقل النور. إن اليمن يستحق مستقبلاً أكثر إشراقاً، مستقبل يبنيه أبناؤه بعقولهم لا بأسلحتهم، وبأفكارهم لا بتقاليدهم.