انتظار الدولة من فاقدي القرار: وهم يمني في واقع مرير
في المشهد اليمني الراهن، يبدو السؤال أكثر إلحاحا من أي وقت مضى: كيف يمكن أن تبنى دولة من قبل من لا يملكون قرارهم؟
وهل من الواقعية أن ننتظر قيام دولة من مجلس قيادة تم تشكيله بقرار خارجي، واقتسمت فيه النفوذ بين السعودية والإمارات، بما يخدم مصالحهما لا مصالح اليمنيين؟.
الحقيقة المؤلمة أن المجلس الرئاسي الحالي في اليمن ليس نتاج إرادة شعبية، ولا هو ثمرة توافق وطني يمني خالص، بل جاء بقرار سعودي إماراتي بامتياز، قسمت فيه السلطة بشكل يعكس خارطة النفوذ لا خارطة الحاجة الوطنية،
فمن جهة، تم تعيين أعضائه بما يضمن تمثيل أدوات النفوذ الإقليمي، لا تمثيل المشروع الوطني الجامع، ومن جهة أخرى، تحول هذا المجلس إلى ساحة صراع داخلي على القرار، بدلا من أن يكون إطارا لإعادة بناء الدولة..
التمويل ليس منة.. بل واجب في معركة مشتركة
كثيرا ما يدور الحديث عن الدعم السعودي للشرعية وكأنه منة، أو فضل على اليمن واليمنيين، غير أن الإنصاف يقتضي القول إن ما تقدمه الرياض ليس تفضلا،
بل هو جزء من مسؤولية إقليمية مشتركة في معركة تتجاوز حدود اليمن، إلى عمق الأمن القومي الخليجي، فالمواجهة مع إيران وأذرعها ليست حربا يمنية بحتة، بل هي معركة مشتركة، اختار اليمنيون أن يكونوا فيها في الخطوط الأمامية..
ولعل النموذج التاريخي للجنرال شارل ديغول خلال الحرب العالمية الثانية يفتح الباب لمقارنة كاشفة؛ فعلى الرغم من أن ديغول تلقى دعما من بريطانيا والولايات المتحدة،
إلا أنه رفض الإملاءات، ورفض أن يعامل كتابع، مؤكدا أن معركة فرنسا مع هتلر ليست معركتها وحدها، بل معركة الحضارة الغربية بأكملها، ولذلك طالب أن تحسب الأموال المقدمة لحكومته كديون لا كمنح، حتى لا تستخدم لاحقا كأداة إذلال أو تبعية..
عبثية التدخلات: من الدعم إلى التقويض
لكن المفارقة أن السعودية، على الرغم من احتساب دعمها لحكومة الشرعية كديون على اليمن، تمارس تحكما مباشرا في القرار السياسي والعسكري والاقتصادي، بل وتساهم في شرعنة أطراف تتبنى مشاريع مناقضة لفكرة الدولة الموحدة، مثل المجلس الانتقالي الجنوبي الذي تخلق تحت العباءة الإماراتية..
والأدهى أن السعودية لم تكتفِ بصناعة تبعية للقرار، بل ذهبت -مع الإمارات- إلى تقسيم النفوذ الجغرافي والمؤسسي، وشرعنة مليشيات، وتقاسم جهاز الدولة، حتى باتت الشرعية ذاتها مجرد عنوان شكلي، فيما القرار الفعلي يتخذ خارج حدود اليمن..
ديغول، رغم حاجته الماسة للدعم، لم يقبل أن يفرض عليه مجلس قيادة من الخارج، ولم ترسم له بريطانيا أو أمريكا خريطة تحالفاته الداخلية، ولم تمكن خصوم وحدته من تقاسم سلطته..
متى يتوقف اليمنيون عن انتظار المستحيل؟
السؤال الصريح الذي ينبغي على اليمنيين مواجهته اليوم هو: إلى متى سيظلون ينتظرون من الفوضى أن تنتج دولة؟
ومن السعودية والإمارات أن تصنعا لهم استقرارا وهما تستثمران في انقسامهم؟ وهل يمكن لشعب أن يحرر قراره ما دام ينتظر الفرج من خارج الحدود؟.
الرهان الحقيقي ليس على الخارج، ولا على أدواته، بل على وعي جمعي يمني يرفض الوصاية، وينبذ التجزئة، ويستعيد قراره من بين ركام التبعية والانقسام،
فالدولة لا تهدى، ولا تبنى بقرارات إقليمية، بل تنتزع بإرادة وطنية صلبة، تضع اليمن فوق كل الولاءات، وتعيد تعريف الشراكة الخارجية بما يخدم اليمن لا من يسيطر عليه!.