تعز بين الجريمة وغياب الدولة!!
في كل مرة يدور النقاش حول تعز، يخرج من يردد: "تركتم اليمن وهربتم"، أو "ما بقي لكم سوى شارعين وحارتين في تعز ومأرب ومع ذلك تنتقدون"، أو "تعالوا حرروا بيتًا وخذوه مشقاة لكم".
وهناك أيضًا من يرى أن ما تعيشه تعز من فوضى ليس استثناءً، بحجة أن كل اليمن بمختلف مناطقه غارق في الجرائم، والبسط على أراضي الدولة والناس، والنهب، والجبايات، والبلطجة، لكن لا أحد يتحدث خوفًا من السلاح والقمع.
لكن، أيها الأحبة، الخطأ الأكبر هو أن نُسوّغ الجريمة والحرب والتمزق والوصاية باعتبارها قدرًا مفروضًا علينا، أو أن نقبل الفوضى كأنها سِمة عامة لا يمكن تغييرها. هذه اللغة الاستسلامية لا تنتج إلا المزيد من الخراب والانهيار.
إن تعز – كما اليمن كله – ضحية غياب الإنسان اليمني المتزن، الذي يمثل بوصلة المجتمع، وضحية غياب الدولة ومنهجها، وتخلي مؤسساتها عن دورها،
كما أنها ضحية لنخب سياسية ضيقة الأفق لا ترى إلا مصالحها الصغيرة، ومسلحين وسياسيين استبدلوا القانون بالفساد والنهب، وحوّلوا الحرب إلى غطاء لتوسيع نفوذهم ومراكمة ثرواتهم.
وطالما أن لا أحد يفكر جديًا أين نريد أن يكون اليمن، فمن الطبيعي أن نتجه نحو الجريمة والاندثار.
لم يترك الناس بلادهم فقط بسبب الجوع، بل بسبب الخوف اليومي، وغياب العدالة، وسلطة السلاح التي تمزق العائلات، وتحرق البيوت، وتسكب الرعب في تفاصيل الحياة اليومية مع انعدام الخدمات وبارقة الأمل.
من خذل الدولة وحوّل مؤسساتها إلى أدوات حزبية وجهوية، هم أنفسهم من فتحوا الباب واسعًا أمام العصابات والنافذين والبلاطجة. هؤلاء المسؤولون – سياسيين كانوا أو عسكريين – شركاء في الجريمة، بتقاعسهم عن إنفاذ القانون أو ارتهانهم للمصالح الضيقة.
منذ 2011 أصبحت تعز مرآة لانكشاف اليمن كله، وتحولت قضاياها اليومية إلى انعكاس لصراعات النخب: قيادات عسكرية تتقاسم النفوذ، أحزاب تتخذ من الفوضى وسيلة لتثبيت مواقعها، وزعماء نافذون يثرون من الجبايات ونهب الممتلكات،
فيما يُترك المواطن العادي وحيدًا في مواجهة الفقر والرصاص وانعدام الخدمات.
أي مستقبل سنقدمه لأطفالنا إذا ظل الجاهل والقاتل والبلطجي يتصدر المشهد، يكافأ بالنفوذ وبالمناصب والألقاب، بينما يُهان المتعلم والمثقف امام وايت ماء او سلة غذاء او بلطجي في نقطة؟
إن مسؤولية وقف التدهور لا تقع على المواطنين وحدهم، بل تقع بالدرجة الأولى على عاتق السلطة المحلية والأجهزة الأمنية والقوى السياسية في تعز.
فالتقاعس عن فرض سيادة القانون ليس حيادًا، بل مشاركة صريحة في الجريمة. ومهما حاولت بعض الأطراف تصوير ما يحدث على أنه "خلافات حزبية" أو "صراعات مناطقية"، فإن الحقيقة أبسط وأخطر من ذلك:
إنها جرائم تُرتكب في وضح النهار، وجماعات مسلحة منفلتة يجب أن تُحاصر ويُقدَّم كل متورط فيها إلى القضاء.
اليوم، ثقافة الجهل والبلطجة وانتشار السلاح ليست مجرد حالة مؤقتة، بل مشروع منظم يرعاه نافذون يستفيدون من الفوضى، ويبسطون به هيمنتهم على الأملاك العامة والخاصة.
وما لم يجرؤ القضاة والمحامون والإعلاميون والنشطاء على تسمية القتلة والناهبين بأسمائهم، فإننا سنستفيق غدًا على مدينة فقدت هويتها المدنية تمامًا.
أبناء تعز، أنتم لستم وحدكم في مواجهة هذه المأساة، بل أنتم الطليعة التي يمكن أن تغيّر مسارها. لا تسمحوا للأحزاب وزعماء المصالح أن يختطفوا مدينتكم.
ارفضوا أن تُباع دماؤكم في أسواق السياسة أو أن تتحولوا إلى رهائن أجندات ضيقة. تعز – بتاريخها وتنوعها ووعيها – أكبر من البلطجة وأقوى من السلاح. كلما رفعتم أصواتكم، تقلّص نفوذ المتسلطين.
وكلما طالبتم بحقوقكم، انكشف زيف من يرفعون شعارات "النضال" وهم في الحقيقة مجرد لصوص يعيدون إنتاج الفساد بثوب آخر. وليعلم كل المتنفذين أن تعز وأبناءها أكبر منهم وأبقى،
وأن عبثهم مهما طال لن يغير حقيقة هذه المدينة التي ستظل تكتب فصولًا جديدة من الإصرار على الحياة ورسم اليمن الكبير المتعايش مع بعضه.