الفوضى في ظل عالم بلا قوانين
لم يعد للقوانين الدولية أي اعتبار في تفكير الغرب عموما والولايات المتحدة بشكل خاص حتى لو أدى ذلك إلى ارتكاب أبشع المجازر بحق البشرية وفق ما تقوم به إسرائيل حاليا في قطاع غزة ,
وعندما لا يُطبَّق القانون على القوي والضعيف فإن الفوضى تنتشر وفق ما نراه حاليا في عالم اليوم ، حيث تتجاوز القوى الغربية , لا سيما الولايات المتحدة، القانون الدولي، وتفرض إرادتها الطاغية، متى وحيث تستطيع.
وما ينطبق على العالم لا ينطبق عليها لأن قوانينها المحلية ودستورها الفيدرالي لا ينصاعان لأية سلطة خارجية , هي من وضعت أسس القانون الدولي مع مجموعة الدول المنتصرة في الحرب العالمية الثانية ,
وبالتالي فإن ميثاق الأمم المتحدة التي شاركت بوضعه الولايات المتحدة عام 1945 فهي ضده الآن لأنه بات يتعارض مع مصالحها خاصة منذ أن باتت تتحكم بالقرار الدولي كأحادية قطبية منذ انهيار الاتحاد السوفيتي قبل أكثر من ثلاثة عقود ,
وهذا ما ركز عليه البروفيسور والمحامي الدولي فيليب ساندز، في كتابه (عالم بلا قانون)، وعلى دور الولايات المتحدة في وضع القواعد العالمية وكيف تنتهكها كما ركز على الإبادة الجماعية، وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية وفضائح غوانتانامو والعراق وأبو غريب وجميعها مسؤولية أمريكية في مخالفة القوانين الدولية وعلى نحوٍ فاضح، إضافة إلى عدم الالتزام بمعاهدة كيوتو السابقة للتغير المناخي إلى الانسحاب من معاهدة باريس للمناخ، إلى الانسحاب من معاهدات دولية وقعتها , كلها مؤشرات على انتهاك للقوانين الدولية ، ويبرهن على أن الفوضى ليست لصالح أحد , والأخطر حاليا والتي يجب التركيز عليها هو الصمت على حرب الإبادة التي يرتكبها الإحتلال الإسرائيلي بحق الفلسطينيين والذي يعد تجاهلا للقانون الدولي ما دامت الولايات المتحدة والغرب عموما يقفون إلى جانب إسرائيل , وهذا ما أكدته الأمينة العام لمنظمة العفو الدولية السابق، أنييس كالامارد، في مقالة بمجلة "فورين أفيرز" أن الحرب في غزة اتسمت بنمط جرائم الحرب وانتهاكات القانون الدولي, وسلطت الضوء على دعم واشنطن والدول الغربية لإسرائيل وحجب المساعدات عن الأونروا، ورفض تأييد جنوب أفريقيا في دعوتها بمحكمة العدل الدولية رغم استمرار المذابح , وهذا ما يؤكد بأن التواطؤ الدبلوماسي في أزمة حقوق الإنسان والأزمة الإنسانية الكارثية في غزة هو تتويج لسنوات من تآكل سيادة القانون الدولي والنظام العالمي لحقوق الإنسان .
وإذا كان القانون الإنساني الدولي ينص على أنّ دولة الاحتلال لا تكتسب السيادة على الأراضي المحتلّة ويتعيّن عليها ضمان معاملة السكان بشكل إنساني، توفير الاحتياجات الأساسية لهم ، بما في ذلك الغذاء والرعاية الطبيّة , فهل تطبق إسرائيل هذه القوانين؟ ومن يحاسبها على خرقها للقانون الدولي الإنساني؟ وفوق هذا كله فإنها تشن غارات جويّة وهجمات صاروخيّة تستهدف المدنيين في انتهاك صارخ لقوانين الحرب، و على مدار الأشهر التسعة الماضية، ارتُكبت إسرائيل جرائم حرب متعددة، ولا تزال تُرتكب، وإذا كان الراعي الأساسي لها الولايات المتحدة يدافع عنها باستمرار ويمدها يوميا بالأسلحة الفتاكة, لدرجة ان المتحدث باسم وزارة الخارجية الأميركية ماثيو ميلر قال بانه لم يتم التوصل إلى نتيجة تفيد بأن إسرائيل انتهكت قوانين الحرب الدولية , فإذا العالم بأسره شاهد جرائم حرب الإبادة ضد الفلسطينيين وواشنطن تقول إن إسرائيل لا تنتهك قوانين الحرب , أما الكاتبة ليديا بولغرين انتقدت في مقال لها في صحيفة نيويورك تايمز انتقائية الغرب في تطبيق معايير النظام الدولي القائم على القوانين والنظم، وإحجامه عن فرضها على دولة إسرائيل بالتحديد.
وتنقل الكاتبة بولغرين عن الباحث القانوني في جنوب أفريقيا، دان مافورا، القول إن هذا النوع من المراوغة الذي نراه يحدث بشأن غزة، والتقليل من حجم الأزمة الإنسانية، والجبن في انتقاد الحكومة الإسرائيلية على تصرفاتها، كل ذلك قد نال من سلطة الولايات المتحدة الأخلاقية في عيون العديد من شعب العالم , أما القانونية ثولي مادونسيلا -وهي ومحامية ضليعة في جنوب أفريقيا، وساهمت في صياغة دستور ما بعد الفصل العنصري في بلادها- قالت : "طالما أن أولئك الذين يضعون القواعد يفرضونها على الآخرين بينما يعتقدون أنهم وحلفاءهم فوق تلك القواعد، فإن نظام الحكم الدولي في ورطة, ونقول إن القوانين هي القوانين، لكن إذا كانت إسرائيل الآن تذبح الفلسطينيين، وتحرمهم من الطعام، وتعمل على تهجيرهم جماعيا، ثم لا تُطبق القواعد عليها ومن يحاول تطبيقها فهو معادٍ للسامية، فإن ذلك يعرض تلك القواعد للخطر".
بالفعل أمام هذه الوقائع فإن القوانين الدولية باتت من الماضي بعد أن ساهمت واشنطن في تدميرها خدمة لمصالحها , وهذا ما كان واضحا بعد أحداث الحادي عشر من أيلول عام الفين وواحد عندما بدأت ما تسميه بالحرب على الإرهاب لتبيح لنفسها كل شيء في ملاحقة الإرهابيين الذين هم من صنيعتها خلفت عشرات ملايين الضحايا في العديد من الدول التي استهدفتها , وهذه السياسة تقوم بها إسرائيل منذ قيامها عام 1948 وحتى الآن وحروبها بدعم غربي كامل رغم أنها مخالفة لجميع القواعد والقوانين الدولية فمن يحاسبها؟...
وهنا تكمن الخطورة لأن داعمي إسرائيل يغطون على مجازرها ضد الفلسطينيين , وهو التناقض الذي تتحكم بسياستهم لأنه عندما تتعرض إسرائيل لأي هجوم يسارعون للإدانة مثلما فعلت في السابع من أكتوبر الماضي التي كانت بداية عملية طوفان الأقصى , ولكن أين هي هذه الإدانات ضد إسرائيل التي تنتهك جميع القوانين الدولية في حربها ضد الفلسطينين في غزة ؟ ..
بالتأكيد لن يقدم أحد من القوى الغربية على إدانتها وعلى العكس فإنهم يقدمون كل الدعم لها ويغطون على جميع جرائمها كما ان الولايات المتحدة عرقلت صدور أي قرار لإدانة إسرائيل في مجلس الأمن وحتى المساعدات تم عرقلة وصولها إلى الفلسطينيين , وهذا ما يعد انتهاكا للقوانين الدولية التي لم يعد لها أي وجود , وبالنتيجة فإن هذه القوانين تفرض حين تكون لمصلحة الولايات المتحدة أما إذا لم تكن كذلك فإنها وكل دولة تدور في فلكها على استعداد لارتكاب أبشع المجازر....
فهل يستمر هذا النظام الغير أخلاقي؟ ...
هذه التناقضات ستستمر إذا لم يتغير النظام العالمي الذي تحاول واشنطن التمسك بزعامتها لنظام الأحادي القطبية , ولكن الأوضاع تتغير والدول الغربية الغنية آخذة بالتقهقر وعلى جبهات عدة مع ارتفاع طموحات الصين العالمية , وتتراجع الديمقراطية الليبرالية في أرجاء كثيرة من العالم , وكل المحاذير تنذر بأن العالم يغامر بالاندفاع "بتهور" نحو عصر جديد من السياسة التي شعارها "القوة تصنع الحق"، حيث كل شيء فيه جائز، ولا وجود للقوانين الدولية , فبات العالم الفقير يرى بأن العالم الغني يطبق القوانين بشكل انتقائي وحسب ما يخدم مصالحه , وهذا ما قد يؤدي إلى انتشار الفوضى, ولكن هل يمكن ان تستمر هذه الفوضى؟
من الواضح بأن الولايات المتحدة ستتمسك برؤيتها لفرضها على الآخرين وهذا ما تابعناه الأسبوع الماضي خلال قمة واشنطن للناتو لتوسيع تحالفاتها في آسيا والمحيط الهادي لحصار الصين ومنعها من التحالف مع روسيا ,وهذا لا يمكن ان يتحقق لأن التحالفات القوية هي بين روسيا والصين إضافة تحالفات أخرى كانت واضحة في قمة شنغهاي التي عقدت في استانة قبل قمة الناتو لمواجهة الأحادية القطبية التي لن تستمر طويلا للإنتقال إلى نظام متعدد الأقطاب , وإذا تحقق ذلك فإن القوانين الدولية يمكن أن تجد طريقها في الحقبة الجديدة
* أ. نضال بركات - إعلامي وكاتب سوري