
عدن... حيث ينزف التاريخ تحت وطأة الإهمال والحرب
على ساحل خليج عدن وبحر العرب في أقصى الحدود الجنوبية اليمنية تقع مدينة عدن المعروفة بأهميتها التجارية والعسكرية والحضارية عبر الزمان.
"ثغر اليمن الباسم" وعاصمته الاقتصادية وأحد أهم الموانئ التجارية، كانت قبلة لأقوام متنوعة من البشر، واختلطت فيها مشارب شتى من الثقافات والأعراق والديانات، وفي أحيائها وشوارعها تعانقت المآذن وقرعت أجراس الكنائس وتجاورت الكنائس والمعابد والمساجد في تجربة تعايش إنسانية لافتة.
إهمال وتخريب
ومن ضمن معالمها التاريخية والأثرية والصروح التذكارية المنتصبة في أحيائها نجد الكنائس والمعابد ومنارة عدن التاريخية وساعة "ليتل بن"، مما يدل على ثراء إرثها الحضاري والتنوع الديني التي عاشته في الماضي.
ولكل معلم في عدن قصة وتاريخ، لكن تلك الشواهد التاريخية طاولها الإهمال وتعرض بعضها إما للتخريب أو الهدم أو الحرق. فما قصة الكنائس والمعابد؟
ارتبطت الكنائس بالاستعمار البريطاني
كانت عدن محطة تجارية عالمية جذبت إليها أقواماً من مختلف الأديان والجنسيات من يهود وفرس وهنود وإنجليز.
وخلال فترة الاستعمار البريطاني لعدن منذ الـ19 من يناير (كانون الثاني) 1839 حتى الـ30 من نوفمبر (تشرين الثاني) 1967، أنشئت ست كنائس كاثوليكية وبروتستانتية وعدد من المعابد الهندوسية والفارسية واليهودية وذلك لخدمة الجاليات الوافدة إلى المدينة.
إهمال وحرق وهدم
ووفقاً لمدير مركز تراث عدن وديع أمان فإن "الكنائس والمعابد والتي تعد جزءاً من الهوية الدينية المتنوعة لعدن، باعتبارها نموذجاً مميزاً يحكي حال التعايش السلمي بين الأديان، لم تعد تقام فيها طقوس دينية بعد مغادرة الأجانب وما تبقى منها هي المباني فقط".
وأضاف أمان "تعرضت الكنائس بعد حرب عام 2015 لاعتداءات كثيرة وحُرقت كنيستا ’سانت جوزيف‘ (البادري) بكريتر، و’حافون‘ في المعلا وسرقة بعض المحتويات وهُدم معبد اليهود في كريتر وبني مركز تجاري على أنقاضه".
تسامح ديني
ولفت إلى أن "المجتمع العدني لم يسجل حادثة اعتداء واحدة بخلفية دينية على تلك الكنائس والمعابد، إلى أن دخلت السياسة في الدين وشهدت المنطقة العربية أحداث وعد بلفور ونكبة 1948".
تاريخ المراكز الدينية
في مدينة التواهي (غرب عدن) توجد "سانت أنتوني" أقدم كنيسة في عدن، وشيدت عام 1839. وتوجد كنيسة "رأس مربط"، التي أنشأها البريطانيون عام 1863، وما زالت قائمة ككنيسة وافتُتحت عيادة لطب العيون إلى جانبها.
وتوجد في مدينة كريتر كنيسة سانت ماري جارسين "ماريا" وأنشئت عام 1871، وحُولت إلى مقر المجلس التشريعي لعدن عام 1947، وهي حالياً مغلقة. وكنيسة "سانت جوزيف" (البادري)، التي شيدت خلال أكتوبر (تشرين الأول) من عام 1845. في حين بنى البريطانيون الكاثوليك كنيسة "صلاح الدين" في البريقة خلال النصف الثاني من القرن الـ19 الميلادي.
وشيدت الجالية الهندوسية عدداً من المعابد في عدن، ولا تزال أربعة منها قائمة حتى اليوم في مدينة كريتر، ولكنها مغلقة وفي حال سيئة، وهي معبد "شري هنجلاج ما تاجي"، شيد عام 1900 ويقع في شارع الخساف. ومعبد "شري شنكر هندو" في شارع أروى.
ومعبد "شري جين سويت أمير" في سوق البز شُيد عام 1882. ومعبد "شري تيريشميرجي" بني عام 1862 ويقع داخل شارع حسن علي.
وفي المقابل، اندثرت بعض المعابد ومنها معبد "السينجوت اليهودي الكبير" الذي بني عام 1856، ومعبد "النار الفارسي" والذي يعود للطائفة الزرادشتية ويقع في الطويلة بمدينة كريتر.
منارة عدن التاريخية
وتعد منارة عدن التاريخية من أهم المعالم السياحية في المدينة اليمنية الجنوبية، وتقع في كريتر. وكانت في الأصل جزءاً من عناصر معمارية ملحقة بمسجد عدن التاريخي الذي تهدم. ويقال إن من أمر ببنائه هو الخليفة الأموي "عمر بن عبدالعزيز".
كما أن المنارة التي يتجاوز عمرها 1280 سنة تستند إلى قاعدة مربعة من أساس حجري متخذة شكلاً مثمناً بارتفاع 21 متراً، ويُصعد إلى قمتها من خلال سلم حلزوني.
ميلان وتشققات
تقول عضو هيئة التدريس في قسم الآثار والسياحة بكلية الآداب جامعة عدن فاطمة سالم صالح إن "الاقتراب من منارة عدن التاريخية أو الدخول إليها راهناً يبعث على الخوف من سقوطها، خصوصاً بعد تزايد نسبة ميلانها والتشققات والشروخ العميقة في جدرانها، وتساقط بعض أجزاء اللياسة أسفل المنارة وفوق مستوى قاعدتها الحجرية والدرب الحديدي الملتف حولها".
ترميمات حديثة
وعن الأسباب التي أدت إلى تشقق وتصدع المعلم التاريخي، أشارت المتحدثة إلى أن "الترميمات غير المتجانسة وبخاصة في الصيانات الحديثة، أدت إلى بروز أجزاء اللياسة الجديدة التي لم ترتبط بجسم المنارة كونها لا تتطابق مع المواد الأصلية المبنية منها"،
موضحة أن" قاعدة المنارة في الأصل بنيت من الأحجار المهدمة، والبدن من الطين المحروق (الآجر)، واستخدم البوميس كمادة لاصقة، في حين أن الترميمات الحديثة استخدمت فيها مادة الأسمنت البورتلاندي العادي والجير مع الرمل وطلاء الجير المطفي (النورة)، وهذا لا يتطابق مع المكونات المعمارية الأصلية للمنارة ويعد بحد ذاته مشكلة".
صيانة على أسس علمية
بدورها، طالبت فاطمة سالم بـ"إجراء عملية ترميم وصيانة من قبل خبراء ومتخصصين تستند إلى أسس علمية، تقوم على تشخيص المشكلات الإنشائية للمعلم التاريخي".
المشكلات الإنشائية
ووفقاً لمتخصصين، تتمثل المشكلات الإنشائية لمنارة عدن التاريخية في الترميمات والصيانات الحديثة غير المتطابقة مع المواد الأصلية، مما أدى إلى تساقط أجزاء اللياسة والبروزات وظهور التشققات العميقة.
وتسبب مرور الشاحنات الكبيرة بجوار المنارة واستخدام آليات ميكانيكية للحفر (كمبريشنات) في بعض المنشآت القريبة إلى حدوث تشققات في جدرانها.
كما أن تأسيس قاعدتها على مقربة من البحر بحسب المصادر الكلاسيكية، ربما أثر في بنية جدران المنارة من طريق أثر الرطوبة، بما يعرف بظاهرة التمدد والانكماش.
ساعة "ليتل بن"
ولا يختلف حال ساعة "ليتل بن" اليوم عن حال كل معالم عدن التاريخية والأثرية، إذ توقفت عن العمل وهي في حاجة إلى صيانة وإعادة تشغيل.
وترمز الساعة الشهيرة إلى الحقبة الاستعمارية البريطانية لعدن والتي امتدت لـ129 عاماً. وتعرف محلياً عند أهالي عدن بـ"بيغ بن" الصغرى تيمناً بساعة "بيغ بن" في لندن.
ووفقاً لفاطمة سالم فإن برج الساعة المسمى "برج هوغ" والواقع على مرتفع جبلي "البنجسار" في مدينة التواهي بمحاذاة ميناء عدن، شيد ما بين عامي 1894 و1895 تخليداً لذكرى القائد العسكري البريطاني، المقيم السياسي لمستوطنة عدن، اللواء آدم جورج فوربس هوغ وبإشراف مهندسيين إنجليز وعمال محليين يمنيين.
البناء العشوائي
وبدوره قال مدير مركز تراث عدن وديع أمان إن "المباني العشوائية أحاطت بالمعلم التاريخي بالكامل وأصبح بعضها يحجب الرؤية عنه، ويضيف "بعض هذه المباني للأسف صُرفت تراخيص رسمية لبنائها وأخرى بُنيت بصورة عشوائية".
وتابع "نفذنا وقفة احتجاجية ضد أحد المباني عندما شرع في بناء الدور الثاني واستطعنا إيقاف ذلك، ولكن هناك كثير من المباني تحيط بالساعة، وهذا يحتاج إلى تكاتف الجهود من قبل الجميع".
إهمال واسع
وأشار المتحدث إلى أن" كل معالم عدن الأثرية والتاريخية تمر بوضع صعب وأصبحت معرضة للاندثار أكثر من أي وقت مضى، بسبب الإهمال الرسمي والحكومي والتجاهل المتعمد من قبل مكتب اليونيسكو في عدن، وقلة الوعي بين أفراد المجتمع"،
مضيفاً أن "أعمال وأنشطة اليونيسكو بعيدة كل البعد عما يحتاج إليه الوضع المزري الحالي للمعالم التاريخية والأثرية في عدن".
وعلى رغم التحديات التي تواجهها معالم عدن التاريخية والأثرية، فإنها لا تزال تروي قصة مدينة كانت ولا تزال رمزاً للتسامح والتعايش، إذ تعانقت المآذن وتجاورت المساجد والكنائس والمعابد في لوحة تعايش إنسانية لافتة.
محمد الخطيب
صحافي يمني