
حين يُختطف القرار، وتُسرق البلاد
ثمة لحظة خفية، لا تُرى ولكن تُحس، تنكسر فيها ملامح الوطن دون صوت. ليست اللحظة التي تنقطع فيها الكهرباء، أو تفرغ فيها الجيوب، أو تسكت فيها المدارس…
بل اللحظة التي يُختطف فيها القرار، حين تصعد جماعة من شذاذ الآفاق إلى مقاعد السلطة، دون وجه حق، ولا وازع ضمير.
إنهم ليسوا رجال دولة، بل أبناء الغنيمة. لم يأتوا عبر صندوق، ولا نهضوا من رحم وجع الناس، بل جاءوا على صهوة الخديعة، وبسيف السطو، وبدم الأبرياء. عيونهم لا ترى الناس، بل تراهم عوائق. قلوبهم لا تنبض بالحياة، بل بالخوف.
وجيوبهم لا تمتلئ إلا من تعب الفقراء، ومن دم البسطاء.
أخذوا البلاد كما تؤخذ الغنائم، ووزعوها كما توزع الغنائم. حولوا الدولة إلى سوق، يتقاسمون فيه الوزارات كما تُقسم الموائد. لا يملكون مشروعًا، ولا يحلمون بوطن، كل ما يريدونه أن يبقى الشعب مشغولًا بالجوع، والدم، والطوابير، والبحث عن النجاة في بلدٍ لم يعد فيه للنجاة معنى.
وبدل أن يكونوا رعاة للوطن، صاروا وحوشًا تنهشه من أطرافه. لا أحد يُحاسب، لأنهم فوق القانون. لا أحد يُعارض، لأن المعارض في قاموسهم خائن. يُخدرون الشعوب بالشعارات، ويذبحونها بالممارسات، وينصبون خيام الوعود الكاذبة فوق أنقاض الحقيقة.
لكن الطامة ليست فقط في الطغيان، بل في الفتنة التي أشعلوها في صدور الناس، فصار المواطن يرى في أخيه عدوًا، لا لشيء، إلا لأنهم نجحوا في تقسيم القلوب، كما قسموا الأرض. جعلوا البيوت تنقسم، والعائلات تتنافر، والدم الواحد يُراق بيدين من دم واحد.
في اليمن، تجد الأخ يقف على الجبهة في مواجهة أخيه، وابن العم في كتيبة تقاتل ابن خاله، والجميع يعتقد أنه على حق. والمفارقة أن لا أحد منهم يعرف من هو صانع هذه المعركة، ولا من المنتفع منها.
حربنا لم تعد بيننا وبين عدو، بل بيننا وبين أنفسنا، وكأن الوطن انقسم إلى مرايا، كل واحدة تعكس صورة قاتلة لأخرى.
والأشد إيلامًا أن هذه الحرب لا تمنح أحدًا مجدًا، ولا تُهدي لأحد راية. إنها حرب لا تُشبه الحروب، يخرج منها الجميع خاسرًا. من مات خسر حياته، ومن بقي خسر روحه، ومن انتصر لم يشعر بلذة النصر، لأنه ببساطة انتصر على نفسه.
ومع كل طلقة، تنزف ذاكرة اليمن. ومع كل جنازة، ينكسر حجر من جدران الوحدة. أصبحنا غرباء في وطنٍ واحد، نخاف من جيراننا، نشك في أقاربنا، ونحمل سلاحًا لا ندري لماذا نحمله، وعلى من نوجهه.
لكنّ الشعوب لا تموت، ولو أُنهكت. والوعي وإن نام، فإنه لا يموت. وما زُرع ظلمًا، لا يثمر أمنًا، وما بُني على القهر، لا يدوم. سيأتي اليوم الذي يرى فيه اليمني عدوه الحقيقي، لا ذاك الذي أشاروا إليه، بل ذاك الذي جفف ماء الحياة في بلاده، ونهب خيرها، ومزق ناسها، وسلّح أولادها ليقتلوا بعضهم.
حتى ذلك اليوم، سيظل في الصدور وجعٌ لا يهدأ، وحنينٌ إلى وطنٍ لم نعرفه كما يجب، لكنه يسكننا كما لا يسكنه سوانا.
إنها معركة لا نهنأ فيها بنصر، ولا نقبل فيها الهزيمة.
بقلم: أ. عبدالله الشرعبي