
هل يعيش الكاتب العربي قطيعة مع القراء؟
أينما وليت وجهك سوف تسمع من كاتب أو ناشر شكوى، من ضعف مبيعات الكتب. فالكتب لم تعد تعرف طريقا لها إلى القراء.
وكل عام تصدر آلاف العناوين بالعربية، والقليل منها يحالفه الحظ ويعثر على قارئ يهتم بها، يقتنيها ثم يطالعها، بينما الغالبية منها سوف تتكدس في مخازن، وتنتحر قبل أن يتاح لها خروج إلى النور.
أرقام النشر في تضاعف من جهة، ومن جهة أخرى أرقام اقتناء الكتب في تنازل، إنها علاقة عكسية بين الطرفين، ولاسيما في ما يتعلق بالكتب الأدبية. مع العلم أننا نتحدث عن عالم عربي، حيث مجمل السكان أو الناطقين بالعربية يتجاوز 400 مليون نسمة.
هذا الرقم الكبير يقابله رقم ضعيف في شراء الكتب. وأفضل الروائيين لا يبيع أكثر من ألف نسخة من عمل جديد، في غضون عام كامل. بينما أرقام مبيعات الشعر، من المخجل أن نبوح بها.
وأتذكر من الشعراء من أخبرني أنه اشترى نسخاً من ديوان له، ثم أهداها إلى الأصدقاء والمقربين. ورغم أن الديوان وصلهم هدية، وبالمجان، فمنهم من لم يهتم بمطالعته.
ومن دور النشر كذلك من صارت تفرض على الكاتب المساهمة في تكلفة النشر، هكذا يتفادى الناشر الخسائر، كما لو أنه يعلم سلفا أن الكتاب لن يجد من يقتنيه. وهذه الحالة من تكدس الكتب ليست أمرأ طارئا، بل صارت واقعا تآلفنا معه منذ سنين.
فالتكنولوجيا الحديثة سهّلت عمل المطابع، وبالتالي سهّلت عملية النشر، ما ترتب عليه ظهور دور نشر جديدة، كل عام، لكن هذه التكنولوجيا لم تتح لنا توفير سوق للكتاب، لأن هذا المطلب يحتاج إلى جهد بشري لا آلي.
وعندما نطالع أرقام المبيعات في دول أخرى، غير عربية، فإننا نشعر بخيبة إزاء وضعنا، ففي دول أخرى تعداد سكانها قد لا يتجاوز المليوني نسمة،
ومع ذلك فإن متوسط مبيعات رواية واحدة يجاور 5 آلاف نسخة في عام واحد، وهو خمس أضعاف ما يمكن لكاتب عربي من الصف الأول أن يطمح إليه.
بالتالي يجدر السؤال: هل الكاتب العربي يعيش في قطيعة عن العصر الذي يحيا فيه؟ هل قطع الصلة مع القارئ، بالتالي صارت الكتب سلعة غير رائجة؟
هل صار الكاتب العربي على غير دراية بما يدور من هموم في عقل القارئ العربي؟ الإجابة، لا. لأن الأدب العربي، وعلى الرغم من محنه، فإنه يجد منفذا له إلى ترجمات في الغرب، ويحظى بقراء في ثقافات ولغات أخرى،
بالتالي له نصيب من اهتمام القراء، بل المفارقة أن الرواية العربية يزيد الاهتمام بها، من طرف القراء المحليين، عندما تترجم في لغات أخرى.
بالتالي المشكلة ليست قطيعة بين كاتب وقارئ، بل المشكلة أعمق من ذلك، وتتمثل في غياب السوق وشروطها، بشكل يسهّل وصول الكتاب إلى القارئ. لقد قضينا عقودا في التفكير في شؤون النشر ووسائله وطرق تطويره، من دون أن نفكر في الخطوة التالية،
لم نفكر في تشييد سوق تشابه أسواق اللغات الأخرى، التي تلعب دورا في تسهيل وصول الناس إلى الكتب وإقناعهم باقتنائها.
إذا طالعنا حالة الجزائر، ووضع الكتاب فيها، فمن شأنها أن تنوب عن بلدان عربية أخرى، قصد فهم هذا الأعراض، عن مقاطعة الكتاب والتنازل عن اقتنائه.
ففي الجزائر يجري تنظيم معرض دولي للكتاب، مرة واحدة في العام. في عشرة أيام يلتقي ناشرون محليون وآخرون أجانب، في عاصمة البلاد، في عرض كتبهم وأحدث إصداراتهم.
ونحن نعلم حجم البلاد، والمسافة البعيدة من مدن داخلية إلى العاصمة، وهناك عدد كبير من القراء لا يتسنى لهم السفر، نظرا إلى ارتباطهم بمشاغل العمل، أو بالنظر إلى ظروف شخصية.
هكذا ينقضي معرض الكتاب الدولي في عشرة أيام، ويليه ندم من قراء لم يتح لهم الحضور. وكأن سوق الكتاب صارت محصورة في أيام عشرة طوال السنة.
مع ذلك، هناك مبادرات من أجل تنظيم معارض كتب محلية، وقد صارت كل مدينة من مدن البلاد تنظم معرضا لها، لكنها في الغالب معارض لا تحظى بإقبال من الناس، والسبب أنه يجري تنظيمها في مقار دور ثقافة، أو مراكز بعيدة عن المتناول.
ففي الأيام العادية لا تحظى هذه الدور للثقافة بزيارة الناس، فكيف نتوقع إقبالا عليها في حال تنظيم معرض للكتاب؟
إن فكرة معرض للكتاب في مدن داخلية هي فكرة تستحق الإشادة، لكنها في الغالب تجري في المكان الخطأ. لماذا لا يجري تصويبها بتنظيم معرض الكتاب في الميادين العامة؟ في الساحات التي يرتادها الناس؟
قبل أن ننظم معرضا للكتاب فلا بد أن نفكر في القارئ، وكيف نذهب إليه لا أن نطلب منه أن ينتقل إلى المعرض. لا بد أن تحمل سياسة تنظيم المعارض نظرة تجارية لا نخبوية، لا أن ينتظم معرض الكتاب في مكان لا يحظى بإقبال، ثم نشتكي من غياب القراء.
ثم إن هناك مسؤولية أخرى تتحملها دور النشر، التي تظن أن مجرد خروج الكتاب من المطبعة يعني نهاية مهمتها. لم يسبق أن سمعنا عن دور نشر تدفع مقابل الترويج لكتاب، في لوحات إعلانية تنتصب في طريق عام أو في سوق.
تظن دور النشر أن القارئ لا بد أن يأتي إليها، لا أن تذهب إليه. تظن أن مجرد طاولة في معرض الكتاب، تفرش عليها إصداراتها، فذلك يبرؤها من مهامها الأخرى.
لا بد أن ندرك أن من النادر في دور نشر عربية أن نصادف منصب مدير تسويق. في دور النشر قد يوجد ناشر، محرر ومدقق، لكن من النادر أن يجري انتداب مدير تسويق.
كما لو أن المبيعات لا تعنيها، بل تعنيها الشكوى من القطيعة مع القارئ. تظن دور نشر أخرى أن إنشاء صفحة في السوشيال ميديا تعرض فيها صور أغلفة وملخصات كتب كفيل باستمالة القارئ، لكن التجربة أثبتت عدم نجاعة هذه الفكرة.
ثم هناك مسؤولية أخيرة تقع على عاتق الكاتب نفسه، الذي بمجرد أن يصدر عملا يعود إلى بيته، ينتظر دعوة من وسيلة إعلام للحديث عن الكتاب أو دعوة في مؤتمر أو معرض كتاب،
لكنه لا ينزل إلى الشارع من تلقاء نفسه، في الدفاع عن كتابه، بل يتقمص مثل الناشر دور الضحية، وبينهما الخاسر إنما الكتاب وحده، الذي لا يزال سلعة غريبة في الأرجاء العربية، نراه وحيدا ويتيما ويباع بأرقام مخجلة مقارنة ببلدان أخرى بتعداد سكاني أقل من تعداد العالم العربي.
سعيد خطيبي
كاتب جزائري