
هل تتراجع الفلسفة أمام تحديات علوم العصر المتعددة؟
بدأ تراجع الفلسفة مع بروز العلوم الدقيقة وهيمنتها المتزايدة على الساحة الفكرية، ثمّ مع نشأة العلوم الإنسانية والاجتماعية التي انفصلت تدريجاً عن حضن الفلسفة منذ منتصف القرن العشرين، حتى هيمنت، في ستينياته، على التفكير العام.
كبار مفكري تلك المرحلة، أمثال ميشال فوكو ولوي ألتوسير وجاك لاكان وكلود ليفي ستروس وجيل دولوز، عبّروا، باستثناء هذا الأخير، عن أولوية هذه العلوم على التأمل الفلسفي التقليدي، ما أوحى بأن الفلسفة تتجه نحو مستقبل قاتم.
فقد جُرّدت الفلسفة من كثير من ميادينها القديمة، كمثل التأمل في الطبيعة الذي كان ركيزة لدى أرسطو في "الفيزياء"، أو لدى الأبيقوريين، وحتى لدى الرواقيين، وهي نصوص لا تزال تثير اهتمام مؤرخي الفكر،
لكنها أُقصيت منذ زمن بعيد إلى هامش "الفضوليات"، خصوصاً بعد أن بزغ نجم فيزياء كوبرنيك وغاليليو ونيوتن وأينشتاين وماري كوري وماكس بلانك ونيلز بور، وغيرهم.
واليوم، تجد الفلسفة نفسها أمام تحديات مماثلة تفرضها العلوم الاجتماعية والإنسانية المتنوعة. فماذا تبقّى لها من دور حين تتكفّل هذه العلوم، من علم النفس إلى علم الاجتماع، ومن التحليل النفسي إلى الاقتصاد والتاريخ والعلوم السياسية، بوصف الإنسان وسياقاته الحياتية انطلاقاً من مناهجها العلمية الخاصة؟
موضع تساؤل
بين ميتافيزيقا باتت موضع تساؤل دائم منذ نقد كانط الجذري، والتي يُنظر إليها اليوم بوصفها امتداداً لأفكار ذات طابع ديني، وبين علوم "إنسانية" استقلّت بمناهجها وأدواتها، يلوح سؤال حادّ: ماذا بقي للفلسفة من مشروع أصيل؟
بغية الإجابة عن هذا السؤال، لا بد في البداية من إبراز مفارقة لافتة بدأت تلوح في أفق المشهد الفلسفي الغربي المعاصر، عنيت ازدياد الطلب على قراءة النصوص الفلسفية، وظهور "مقاهي الفلسفة"، وانتشار مجلات فكرية تسعى إلى تقريب الفلسفة من عامة الناس وإلى التمايز عن التعليم المدرسي والجامعي التقليدي، ولو جاء هذا التبسيط في بعض الأحيان على حساب نسيان التراث الفلسفي ذاته.
يستمد هذا الإقبال الشعبي الجديد على الفلسفة شرعيته من روح المساواة ومن حقّ كل إنسان في طرح أسئلته الوجودية ومن الحاجة إلى التعبير الشخصي وبناء فضاء للحوار الأفقي قائم على تبادل الاحترام والتسامح، الذي يصفه مارسيل غوشيه بـ"الديمقراطية التوكفيلية" (الفيلسوف دو توكفيل) وعلاقاتها المبنية على أساس المساواة لا الهيمنة.
هذا الطلب المستجد على الفلسفة يأتي إذاً في سياق تاريخي تشهده المجتمعات الغربية منذ أكثر من قرنين بدأ مع ظاهرة ابتعاد الإنسان عن الدين والإيمان، التي أطلق عليها مارسيل غوشيه اسم "نزع السحر عن العالم"، أي تخلّي هذه المجتمعات عن مبدأ التعالي الميتافيزيقي والسلطة الإلهية لمصلحة مبدأ شرعية ذاتية، وهو مبدأ الحداثة، وقوامها أفراد أحرار متساوون في الحقوق، يتحمّلون مسؤولية مصيرهم وصياغة مستقبلهم.
وقد تعمّق هذا المسار مع الوقت حتى أفضى بالنهاية إلى اندثار كل مرجعية عليا– سواء كانت الله، الأمة، الطبقة، أو التاريخ– لمصلحة فردانية متطرفة تركت الإنسان وحيداً أمام مصيره، يواجه الحياة بـ"حرية" تامة ولكن من دون بوصلة أو مرجعية.
هكذا، أفسح تفاؤل عصر الأنوار وإيمانه بالتقدّم العلمي المجالَ لرؤية قاتمة لعالم معقّد وغير يقيني. فقد بات الإنسان الحديث يشعر أنه فقد السيطرة على مجريات حياته وأصبح خاضعاً لأنظمة وتفاعلات ذاتية التنظيم لا قدرة له على فهمها أو التأثير فيها.
والمفارقة المؤلمة أن هذا الإنسان،
كلما شعر بأنه حرّ فردياً، ازداد عجزه على المستوى الجماعي: فهو يعيش في مجتمع نيوليبرالي شديد التخصّص علمياً وتقنياً، لكن هذا المجتمع لا يمكّنه من فهم أزمات عصره، ولا يساعده على بلورة معنى ما يحدث من حوله.
لا بل إن هذا السياق النيوليبرالي الذي يدفع الإنسان نحو تبجيل المعرفة المتخصصة على حساب التفكير الشمولي، معلياً من شأن الخبراء على حساب المثقفين،
قد أقصى الفلسفة إقصاءً شبه تام. فالفكر النيوليبرالي، في جوهره، يُؤمن بأن الجماعة البشرية لا يمكن فهمها إلا عبر آليات معقدة ذاتية التنظيم،
وبالتالي لا حاجة إلى التفكير النظري أو إلى الفلسفة، بل إلى أدوات تقنية وتكنولوجية محددة وتدابير إدارية مجزّأة، تسعى إلى حل المشكلات بمنطق السوق والفعالية لا بمنطق المعنى.
الحاجة إلى الفلسفة
لكن، وفي قلب هذا الإقصاء، برزت، وربما أكثر من أي وقت مضى، الحاجة العميقة إلى الفلسفة. ففي مواجهة عقلانية تقنية متغطرسة لا ترى في العالم سوى موضوع للهيمنة،
وفي مقابل لا عقلانية فوضوية تتجلى في "روحانيات جديدة"، وتنجيم، وأوهام "العصر الجديد"، تظهر الفلسفة بوصفها القادرة وحدها على منحنا الأدوات الفكرية اللازمة للتأمل في العالم، وفي علاقتنا به، وفي المصير الإنساني المشترك.
إن تلاشي المرجعيات العليا وتراجع الرؤى الخلاصية والسرديات الكبرى وانعزال الفرد أمام مصيره والإحساس المتنامي بالعجز في قلب مجتمع يدعي امتلاك المعرفة بينما يخفي في جوهره الكثير من الجهل والضياع،
أعاد الاعتبار إلى الفلسفة. هكذا نفهم انطلاق موضة "الفلاسفة الجدد" عام 1977 ونجاح "الجامعة الشعبية" التي أطلقها ميشال أونفري في التسعينيات من القرن المنصرم،
واستضافة عددٍ من الفلاسفة في البرامج الإذاعية والتلفزيونية، ونجاح بعض الكتب التي تصنعها الموضة والزمن، إلى جانب إعادة نشر كتب أو مختارات من أعمال سِنِيكا حول الشيخوخة والحياة السعيدة، وماركوس أوريليوس في العناية بالذات والحكمة،
وشيشرون في الصداقة والواجب والألم والموت، وبلوتارخوس في راحة الضمير، وأرسطو في الأخلاق، التي تدل كلها على توق إلى المعرفة، ثم على رغبة في استئناف الانشغال بالمسائل التي طرحتها الفلسفات الوجودية.
وهذا ما يؤكد أن الفلسفة، على رغم الادعاءات بموتها، لم تكن يوماً في حال أفضل مما هي عليه الآن.
لكنها، في الوقت عينه، لم تكن في حال أسوأ. فهي في حال جيدة، لأننا ما زلنا، من دون انقطاع، ننتظر منها معنى، ونطلب منها أجوبة على أسئلة أخلاقية وسياسية ووجودية: كيف نفكر ونعيش ونتصرف في عالم محروم من أي مرجع متعالٍ وخاضع فقط لقوانين السوق؟
وهي في حال سيئة، لأن هذه الحاجة العامة للفلسفة تتيح للرديئين والتجار والساخرين والانتهازيين أن يروّجوا لبضائع مزورة تحت غطاء الفكر الفلسفي يكفي أن نذكر في هذا السياق كتابات برنار هنري ليفي وغيره.
لكن يبقى السؤال: ما الذي يمكن للفلسفة الحقيقية أن تفعله اليوم؟ وما هي الفلسفة الممكنة في زمن العلوم والذكاء الاصطناعي ونموذج المجتمع الاستهلاكي؟
توجيه الحياة
إن المجال الأبرز الذي تتجلّى فيه حاجتنا اليوم إلى الفلسفة هو مجال توجيه الحياة والمساعدة على خوض غمار الوجود.
ذلك أن نموذج الفعل القائم على الاستهلاك وحده، مهما بلغ من القوة والانتشار، لا يُشبع عطش النفس إلى المعنى، بل يتركها، في نهاية المطاف، وحيدة تشعر بإحساس عميق بالنقص.
إن توجيه الذات، في علاقتها بنفسها، وبالآخرين، وبالعالم، يتطلّب تأملاً من مرتبة أرفع من تلك التي تتناولها العلوم الوضعية، وإن كانت بدورها لا تستغني عن العقل.
ومثل هذا يصدق على الأسئلة البيوأخلاقية، حيث يقف العلم عاجزاً عن أن يقول لنا كيف نستخدم معارفه. وكذلك في الشأن السياسي، إذ لا تُخبرنا المعارف التخصصية، مهما بلغت، بما ينبغي علينا فعله، ولا من نحن، ولا من أين جئنا، ولا إلى أين نمضي.
إن إنسان اليوم بحاجة إلى مقاربة مغايرة، تتجاوز منطق إدارة التقنيات والخبرات، تلك التي أنتجت "ديمقراطية العجز"، بحيث لم تعد المجتمعات تحكم نفسها بنفسها.
فسؤال إمكان الفلسفة السياسية، في حقيقته، ما هو إلا سؤال إمكان قيام ديمقراطية حقيقية، أي حكم الذات للذات، وتملّك جماعي للمصير. وهنا، سواء في أفق السياسة أو على المستوى الشخصي، تتجلّى الضرورة القصوى للفلسفة، وأهميتها الإنسانية العميقة.
لذا ينبغي علينا أولًا أن نُدرك أن الفلسفة لم تعد مدعوة اليوم إلى الظهور بهيئة الأنظمة الفكرية والسرديات الكبرى التي صنعت تاريخها.
بمعنى أنه لا يمكننا اليوم أن نتفلسف بالطريقة نفسها التي تفكّر بها الفلاسفة القدماء، وإن كان من الضروري أن نواصل نقل هذه الفلسفات وإحيائها في ضوء تفكيرنا الراهن.
فالفلسفة التي لا تزال تنبض بالحياة والتي ينبغي التمييز بينها وبين "تاريخ الفلسفة" الذي صار في الجامعات وكأنه هو الفلسفة بعينها، لم يعد في وسعها أن تشبه تلك الصروح الفكرية الماضية.
لكن هذا لا يعني أنه ينبغي علينا أن نكتفي بخبرات ضيّقة ومهارات متخصصة في مجالات محدودة، على نحو ما ذهبت إليه الفلسفة التحليلية في التقليد الأنجلوساكسوني.
إن الحاجة إلى مساءلة التجربة الحياتية في شموليتها ما زالت قائمة، وهي حاجة لا تستطيع المقاربات العلمية وحدها أن تُلبّيها. لأن الإنسان المعاصر ما زال يتطلع إلى ضرب من المعرفة، لا يتصل بالكينونة في ذاتها، بل بـ"الواقع الإنساني"، وهو أمر يتعذّر على العلوم والتكنولوجيا أن تتناوله، لأنها تقطّع الواقع إلى شُعب ومجالات ضيقة، بينما يحتاج الإنسان إلى فكر يقبض على الكل.
خلاصة القول إن الفلسفة هي نمط من الإيضاح والتوجيه وإصدار الأحكام تجاه نظام من الواقع لا يمكن بلوغه عبر سبل أخرى. وهي تعبّر اليوم عن جهدٍ تأملي، غير مكتمل بطبيعته، لكنه يظل التعبير الأصفى عن قدرة الإنسان المحدودة والفعّالة على فهم نفسه وتوجيهها.
مارلين كنعان
أستاذة الفلسفة والحضارات، كاتبة وباحثة