
علي المقري في "حديث الألف".. رواية وحيدة بعيداً عن تعز
كتب الروائي اليمني علي المقري (1966) أربع روايات خلال سبع سنوات من عيشه مواطناً في بلاده، ورواية واحدة فقط خلال السنوات العشر التي يواصل عيشها منذ 2015 في فرنسا.
وكانت هذه المنطقة الزمنية للراوي العليم هي مجال تأمل ونقاش حول سياقات الكتابة في الوطن، والمنفى، والتحديات التي تحرض على الكتابة، والحريات المتوافرة التي تحد منها، وانسجام الغريب واندماجه، أو انسحابه وتقوقعه.
هذا كله لم يفكر أحد في حسمه، بل ظلّ ضمن إطار المقاربات على مدار ساعتين في ندوة "حديث الألف" التي افتتحت أول أمس موسمها الثالث 2025 - 2026، وتنظّمها "فضاءات ميديا"، أول أربعاء من كل شهر في مكتبة "ألف".
وحلّ المقري ضيفاً على محاورته الروائية اللبنانية هالة كوثراني، بينما قرأ المذيع والفنان الأردني رشيد ملحس مقاطع من بعض الروايات،
وغلبت على الجلسة أسئلة الكتابة في مناخين مختلفين كلياً، متقاطعين في جسد الكاتب منسجمين بعض الأحيان وغالباً يدفعان إلى ارتباك وجودي.
"حكاية الحكاية" السؤال الأساسي الذي تقوم عليه الندوة بدأت مع رواية المقري منذ 2008 وهي "طعم أسود.. رائحة سوداء"، وهي رواية ستسمح له بدخول عالم الجوائز وترشيحاتها، ومن ثم لتفتح شهيته على كتابة روائية متدفقة بمعدل رواية كلّ عامين منذ 2008 حتى 2014.
تصدر الروائي أولى رواياته فتدخل القائمة الطويلة للجائزة العالمية للرواية العربية لعام 2009، وفي العام ذاته يصدر رواية "اليهودي الحالي" لتدخل القائمة الطويلة للجائزة نفسها عام 2011.
وجود علي المقري في معترك الكتابة والنشر العربيين يصلح للقراءة والتأمل، فهو الروائي الذي ليس لديه سوى شهادة ميلاد وحيدة مع الرواية فقط،
وهو مثل حالات أُخرى على ذات النسق يبدو زاهداً في تذكير الآخرين بماضيه الشعري، بل إنه بدا سعيداً بملاحظة كوثراني أن دخوله الروائي بدأ من دون أي مؤثرات ولو طفيفة لشاعر له أربع مجموعات، ويكتب رواية للمرة الأولى.
منذ ثمانينيات القرن الماضي كان المقري الشاعر اليمني، ولديه أربع مجموعات هي: "نافذة للجسد" (1987)، و"ترميمات" (1999)، و"يحدث في النسيان" (2003)، و"العفيف: زمن خارج السرب" (2003)، مع كتاب آخر عن الخمر والنبيذ في الإسلام عام 2007، وكتاب للأطفال.
أشار ضيفنا إلى أن عنوان رواية "طعم أسود.. رائحة سوداء" هو التهمة الشعرية الوحيدة التي طاولت دخوله الروائي الأول، من خلال هذا المجاز العقلي "رائحة سوداء". ما الذي قرّره الكاتب إذن، وما الذي سيحرّضه على الكتابة من مدينته تعز إلى ربوع بلاده ومجاهل تاريخه، وإلى ما يصفه بأنه كنز الحكايات العجيب في اليمن؟
لقد جعل المقري نصب عينيه الكتابة الروائية في مشاريع كبيرة جاهزة في رأسه. هذه الجاهزية الروائية تعني أن قضية ما تستولي عليه، تستبد به معرفياً وجمالياً فيشتغل على مخطط لها، مثلما يفعل الكتّاب الكلاسيكيون، أو مثل كتّاب الحوليات، ولا يترك نفسه لكتابة انفعالية قد تكون مثمرة عند كتّاب وكاتبات آخرين.
بهذه الكيفية يخبرنا المقري أن مشواراً من تعز إلى قريته شهد إيقاف سيارته من شابة يمنية سوداء تنتمي إلى عالم مسحوق يطلق عليه "طبقة الأخدام"، ستعرفه إلى عائلتها لمدة يومين، بدا فيها الشاعر مأخوذاً بهذا الهامش المعزول، إلى أن أعلن غير مرة أنه صار منهم وعربون الوفاء هو رواية "طعم أسود.. رائحة سوداء".
جاهزية روائية تقضي بألّا يترك نفسه للكتابة الانفعالية
اليهود بوصفهم أقلية دينية في المجتمع اليمني، وقصة تفاعلهم مع الأغلبية المسلمة، كانوا مجال روايته التالية "اليهودي الحالي"، وهم مع السود كانوا كما يريد القول "سادة الفنّ والجمال في اليمن".
السود بدَوا دائماً عالماً أسطورياً إلى درجة القول إن أصولهم ليست بشرية، بل نجمت عن تلاقح مع الجن. واليهود الذين "تقاسموا الفن والجمال" مع رصفائهم المهمشين هم مثال آخر على كتابة المقري مشروعاً جاهزاً روائياً أي ناضجاً قبل إنزاله إلى الورق.
هذان العملان ربما لا يثيران حفيظة المتحفظين ما قد يدفع الكاتب للخروج من البلاد. لكن التراكمات جعلت تصنف المقري بأنه كاتب يثير الضيق.
إنه يكتب عن "الحرمة" الرواية الصادرة عام 2011، وتحكي قمع المرأة في مجتمع ذكوري متشدّد دينياً، وتمردها على القيود الاجتماعية.
ويكتب "بخور عدني" عام 2014 عن مدينة عدن الكوزمبوليتية ذات التعددية الثقافية والعرقية في حقبة ما قبل الاستقلال وما بعدها، وتحولات هذه التعددية تحت الحكم الحزبي الاشتراكي.
لقد قيل إذاً إن المقري الذي ألف كتاباً منتخباً من كتب التراث حول الأنبذة والخمور يدافع في نموذج عدن عن الاستعمار الإنكليزي،
ويجعل المسلمة تتزوج يهودياً وتدور أحداث الرواية في القرن السابع عشر في قرية تسمى ريدة، المعروفة بانفتاح رجالها ونسائها على العلم والتعلم.
والحال عند الكاتب الضيف أن زوايا النظر إلى السياقات تستعجل عند الجمهور دائماً الوصول إلى اختزالات وتنميطات سريعة تسهل على المرء ابتلاع الفكرة وتمثلها داخلياً دون أي مراجعة نقدية.
لا بل يتحدث المقري عما يسميه "الانحطاط القرائي" عند الناس، وخصوصاً لجهة إطلاق الأحكام القيمية والأخلاقية من مثل القول إن ثمة خطوطاً حمراء والكاتب يمعن في تجاوزها.
والقول عند الكاتب إن تاريخنا العربي ومن ذلك تاريخ اليمن كان أوسع بكثير مما نفرض عليه من تضييقات معاصرة مردّها بالفعل إلى هذا الانحطاط القرائي. والذي لا يقرأ الكتاب لا يعود قادراً على قراءة الحاضر بعقل تفكيكي نقدي.
يتحدث هنا المقري على سبيل المثال عن تهمة الإعجاب بالاستعمار في نموذج عدن، قائلاً إن بطل الرواية فرنسي هرب من الحرب إلى عدن، التي استقبلت مواطنه الشاعر الشهير رامبو لعشر سنوات وفتنته حتى أنه طلب أن يدفن فيها.
التراكبات التي تقع في مكان واحد تجعل للمستعمر وجوداً لا يمكن الترحيب به عنده، بيد أن الرواية مرآوية وحجم لا أفقي مبسط، وعليه تظهر فيه الأشياء والبشر لا كما تتوقعهم في خطابك السياسي.
تجرأ الكاتب وقال في المقابل إن الحكم الاشتراكي الذي تخلص من الاستعمار فرض نمطاً من الحياة السياسية تراجعت كثيراً عن حياة الناس تحت مستعمريهم، وهبطت بمستوى أحلامهم.
مثل هذا السياق يستحق النظر ويستحق النقد، كما يمضي قوله. تكالبت الأجواء غير الملائمة للعيش اليمني على كل من يعيش هناك، عام 2015 كانت الحرب في ذروتها وضاقت الحياة بكل ما فيها على الروح،
وقرر المقري استثمار دعوة من معهد العالم العربي في باريس لإقامة أدبية، ومن يومها وهو هناك. حين نصل إلى المقري "الباريسي" نبقى مع رواية وحيدة وهي "بلاد القائد" المنشورة عام 2019 وتتحدث عن الدكتاتورية وعلاقة المثقف بالسلطة في بلاد متخيّلة لجديدة يسمّيها "عراسوبيا" (منحوتة من العراق وسورية وليبيا) يحكمها دكتاتور مهووس بجنون العظمة.
لماذا رواية واحدة؟ بل إن وسام الفارس للفنون الذي منحته الدولة الفرنسية كان على منجزه الذي أسسه عرف فيه اليمن.
يقول علي المقري متسائلاً مع السائلين، لماذا كان يكتب تحت التحدي والتحريض ما قد يجرّ عليه ويلات، ومع هذا يواصل الكتابة، وحين تفسح له سبل التعبير بكل حرية يصاب بسكتة روائية.
أيضاً ما زال يتأمل الرجل في الحال ويقول إنه منخرط في الكتابة الثقافية ويعبر عن موقفه السياسي من خلال المنشورات على مواقع التواصل الاجتماعي،
ومن خلال نشره في الصحف والمجلات، ولديه كتاب باريسي لكنه لم ينشره وربما يتحفظ على نشره. ما يريده علي المقري هو العودة إلى تعز، وأن تعود تعز إليه.
محمد هديب
كاتب وصحافي أردني