
ما تصنعه الحروب... ما لا يصنعه الشعراء
ما يصنعه الشعراء يمكن أن يكون حلماً أو ثورة أو بياناً شعرياً، أو ربما سخريةً من عالم يخضع لسلطة الجنرالات وليس إلى أهواء الشعراء، وإلى شغفهم بصناعة شعارات ساحرة، لكنها ستظل غير صالحة للتداول في دكاكين الفقراء وفي إشباع غرائزهم للخبز والجسد.
ما كتبه الشاعر فاضل السلطاني في ثقافية «الشرق الأوسط»، الصادرة في 18 أغسطس (آب) 2025، تحت عنوان «لو كنت شاعراً حقيقياً لمنعت الحرب» يمكن أن نعيد قراءاته بوصفه تحريضاً على ما يمكن أن يصنعه الوعي، وعلى ما تؤسسه اللغة، وما تحمله القصيدة من استفزاز في إثراء وظيفة المنع، تسويغاً للحديث عن الوجود المتعالي للإنسان،
وعن الرهان الأخلاقي في منع تلك الحرب التي تقتله، التي تشبه الخطيئة كثيراً.
ما استعاده السلطاني عبر هذه الجملة الصاخبة يؤشر لمدى الحاجة إلى كراهية الحرب، وإلى مدى الإحساس بجحيمها، والتشهي للربط ما بين الحقيقة، والتوهم بإمكانية الشعر في أن يكون مانعاً،
وأن يكون الشاعر أكثر شجاعة في التصريح بتمثيل «الحقيقة» وإشهار كراهية الحرب، ومنح شعريته خياراً يتجاوز استعارات اللغة إلى الوجود فيها،
فمنع الحرب يعني منع الموت، والإشهار في التعبير عن امتلاكه «الحقيقة» يعني إمكانية تغيير الوظائف والعناوين،
إذ هو لا يشبه لا السياسي ولا الجنرال، ولا الزعيم الآيديولوجي، ليكتفي بوظيفة خازن المعرفة واللغة، تلك التي جعل منها الفيلسوف هيدغر نظيراً للمكوث في المعنى - الوجود.
حديث إلياس كانيتي عن «وقف الحرب» ليس معنياً بالحديث عن البراءة، ولا بتوصيف تلك الحرب، بقدر ما يعني التذكير بأن الحرب والشعر نقيضان،
وأن الشاعر الذي يكتب عن الوجود، وعن الناس، يحتاج إلى أن يكون حقيقياً، لكي يجعل من كراهية الحرب موقفاً، تعبيراً عن ذاته الطهرانية، وتمرداً على «العقل الرأسمالي» الذي يصنع ماركات الحروب مثلما يصنع ماركات الأحذية،
وحتى استعارته لحديث الشاعر المجهول لا تدخل إلا في سياق تمثيل تلك الكراهية، ونقل عبارة «لقد قضي الأمر» من صياغتها الترجمية، كنظير لما ورد في القرآن الكريم «قضي الأمر الذي فيه تستفتيان» سورة «يوسف الآية 41» إلى رؤية التحقق،
حيث قطع الطريق على أي تأويل يجرّ المعنى إلى باطن لا يستوي مع دلالته.
استعادة الكلام يمكن أن تصلح لاستعادة الحديث عن غياب المثقفين إزاء طغيان الحروب، وإزاء ما تصنعه على الأرض وفي النفوس، إذ لا تكتفي المدونات بكتابة الملاحم، ولا كتب الحماسة،
والحديث عن فحولات الشعر والشعراء، بل يحتاج الأمر إلى موقف حقيقي، وإلى رؤية واضحة، وإلى وعي يتجاوز حدود شقاوته،
لأن ما يحدث في عالمنا العربي يضع الشاعر أمام مرائر لا حدود لها، وصناعات مرعبة للحروب، لا يملك إزاءها سوى العودة إلى اللغة، وإلى الهتاف والبيان، وإلى جعل الخطاب منوطاً بالضمير،
وبالفكرة التي يمكن أن تحيا عبر الوعي الخجول بها، وعبر ما يجعل من حقيقة الموقف إبصاراً لما يخفيه المحاربون، وإلى ما يمكن أن تستدعيه المسؤولية من واقعية فاعلة، تعيد تأهيل الشاعر لوظائف نقدية وأخلاقية وإنسانية،
تُحرره من عقدة «الشاعر التابع» والشاعر العاطل عن المعنى، إذ ستكون الكتابة الضد هي الاعتراف، والتطهير والخلاص، وربما النبذ العلني لما يصنعه «مشعلو الحرائق» الذي يرممون الجبهات بالبيانات والمراثي وأوهام الفرق الناجية.
أثار السلطاني في مقاله شجناً عن هوية حروبنا الملعونة، وعمّا تتركه على الجسد والتاريخ والخريطة، فبقدر ما استعار من حكاية كانيتي عن الشاعر المجهول،
فإنه بدا أكثر وضوحاً فيما يمكن أن يكتبه الشعراء، وعما ينبغي للقصيدة أن تكشفه، من أسئلة ونقائض، ومن أسفار، ومن وعي صافٍ يتجاوز عقدة «البلبلة» التي قد تفضي إلى اللاوضوح، وإلى التشظي الذي قاد الجنود إلى الخنادق، وأخذ باللغة إلى المتاهة.
ما يحدث في غزة من «حرب مفتوحة» ومن إكراهات لا يملك الشعراء العرب سوى كتابة مراثيها، فالقدرة على وقفها تجاوزت صلاحيتهم،
وجعلت من أصحاب السياسة الدولية ومن «الكبار» أصحاب الأسلحة والأسواق، وهم كائنات لا تقرأ الشعر ولا تعترف بالحلول الشعرية، يملكون «الحقيقة» والأهلية لإيقاف الحرب، ولمنع صناعة المزيد من المقابر المفتوحة والحرائق التي تحرق الأرض والنسل واللغة.
حديث كانيتي عن التقزز من «الجملة» لا يعني رفضها، لأنه أدرك أن الشاعر لا يملك أدوات السلام، وأن اللغة وحدها لا تكفي لرتق قميص مثقوب،
لكنه أصر على استعادتها، واستحضارها، لكي يواجه رثاثة الصمت، وكراهية اللامعنى، والبحث في ذاكرة البلاغة عن بيان يمكن أن يتحول إلى برهان، وعن عرفان يصلح لتطهير الروح،
إذ سيكون الصمت قناعاً آخر للهزيمة، ولا وعياً مسكوناً بأشباح الماضي في مقابل حرية المسؤولية في إعادة صياغة كثير من المفاهيم الثقافية، التي يمكن أن تنقل المثقف العربي إلى مجال تداولي أكثر حرية، وأن تعيد له حرارة الكلام، وجدّة الموقف،
لكي يمارس وعيه النقدي، والقدرة على المراجعة، وعلى القول بأنه صرخ بأن الحرب هي الوجه الآخر للكراهية،
ولكل القبح الذي قرأناه في الروايات التي جعلت من التاريخ خاضعاً لسلطة السرد، وإلى فضح ما تصنعه حروب السياسة والآيديولوجيا والقمع من إكراهات،
لم يستطع الشعراء والسرديون التفكير بصوت عال لكي يقولوا إننا سنُعيد النظر بمفهوم «المصير» و«الوجود» و«العقل»، وأننا سنواصل رهان الكتابة، بوصفها أثراً وتدويناً ووجوداً،
وربما ستكون خياراً نفسياً للاعتراف أمام «القراء» بأننا أوقفنا تلك الحروب الملعونة.
علي حسن الفواز