الجبن التعزي.. أشهر صناعات اليمن رغم قلة الثروة الحيوانية
نال الجبن التعزي المدخن شهرته التأريخية باعتباره يتصدر الصناعات التقليدية التي تشتهر بها مدينة تعز دون غيرها من مدن اليمن، وقد كسب إعجاب ومحبة كل من يتذوقه.
لا يعود أي شخص يزور مدينة تعز وسط اليمن إلا محملاً بأجمل الهدايا منها، والتي يتباهى بجلبها وتقديمها للأحباب والأقارب، وفي مقدمها الجبن التعزي المدخّن ذو المذاق المميز والفريد، والذي يحرص كل يمني على تذوقه كلما سنحت له فرصة القدوم إلى تعز.
وعموماً يأكل اليمنيون الجبن بكميات كبيرة، ويفضلون النوع المصنوع من حليب الماعز عن حليب الأبقار، ويقدم الجبن التعزي على موائد الطعام كقطع صغيرة تؤكل مع الخبز وفي موائد شهر رمضان يستخدم بكثرة، حيث يهرس مع الطماطم والفلفل الحار والثوم والكمون والملح.
ويحافظ الجبن التعزي، بسبب شهرته الكبيرة، على الطريقة التقليدية في صناعته، ولا تزال العديد من الأسر التعزية تعيش من مهنة صناعته وبيعه، وتحافظ بالتالي على أسراره الكثيرة المتوارثة جيلاً بعد جيل.
ويدخل الجبن التعزي المدخّن في الوجبات الشعبية لأبناء تعز، وفي مقدمها "السحاوق" التي تتضمن طماطم وبسباسا وثوما وكمونا وأعشابا نباتية، مثل المريمرة والكزبرة والنعناع والبقدونس.
ويجري هرس هذه المواد مع الجبن التعزي لإعداد وجبة "سحاوق" المخصصة لفئة العمال الذي يقبلون على شرائها كون أسعارها رخيصة نسبياً، وتتمتع في الوقت ذاته بفوائد صحية كثيرة.
ويأكل اليمنيون أيضاً أنواعاً من الجبن التعزي الرطب أو ما يسمى بـ"العوب" الذي يضعونه مع الحلاوة التقليدية، كما يستخدمون الأنواع الرطبة في صناعة حلويات ومأكولات.
وليست صناعة الجبن التعزي المعروفة بالتجبين سهلة، إذ تحتاج إلى مهارة فائقة وتستغرق يومين على الأقل، وقد تطول.
ويبدأ صانع الجبن بإحضار اللبن الذي يكون طازجاً، وقد يكون مصدره من ماعز أو أبقار أو إبل، ويوضع هذا اللبن في قدر يسمى "قروانة"، ويُغلى على نار هادئة لفترة طويلة، ويُضاف الملح إليه بحسب الحاجة، فهو يحمي الجبن من التعفن ويقضي على البكتيريا ويمدد فترة صلاحيته.
أيضاً تضاف إلى الجبن التعزي مادة تسمى اللفح (الكيموسين علمياً) التي تستخرج من أمعاء ومعدة صغار الماعز التي تتغذى على الحليب فقط. ويفصل اللفح الماء عن الجبن، وهو مادة نادرة حالياً بسبب قلة الثروة الحيوانية في اليمن.
وبعدها يدخل الجبن في عملية التدخين التي تعرف باسم "الكباء"، ويلحظ تجفيفه من الماء باستخدام قطعة قماش، وتعريضه للدخان الناتج عن إحراق حطب أغصان أشجار خاصة.
وتزيد هذه العملية صلابة الجبن وتمنحه لوناً مميزاً ونكهة خاصة، وهي بمثابة تعقيم صحي للجبن، إذ يساعد ثاني أكسيد الكربون الناتج عن دخان عملية "الكباء" في قتل البكتيريا، ويحمي الجبن من التعفن.
ويحتاج الجبن نحو 48 ساعة تقريباً حتى يتخثر ويأخذ شكله الدائري الصلب، ويكتمل تماسكه وليكون صالحاً للبيع وذلك داخل أوعية خزفية تعد من سعف النخيل.
وتتميز مديريات مقبنة وجبل حبشي والوازعية ومنطقة الضباب بريف تعز في صناعة الجبن التعزي الذي تحمل أنواعه الأسماء الخاصة بأماكن صناعته، وتشكل علامات خاصة لميزاته واستخداماته.
وبين التسميات العوشقي والعرفي والقاحزي والهاملي والضبابي والقمهري والكدحي والقمهري.
ويعد الجبن العوشقي الأكثر جودة والأغلى سعراً، وتجري عملية صناعته وتجبينه في منطقة جبل النار قرب مدينة المخا، ويتميز بأنه أكثر صلابة، وذو طعم حلو، وتزيد صلابته فترة صلاحيته، ما يسمح بتصديره إلى محافظات ودول أخرى من دون أن يُفسد أو يُتلف.
ويعتبر الجبن التعزي القاحزي الثاني الأفضل جودة، ويجري صنعه وتجبينه في منطقة الأقحوز التابعة لمديرية مقبنة، وهو يشبه العوشقي على صعيد الميزات.
وأيضاً هناك الجبن التعزي العشملي الخاص بمنطقة العشملة التابعة لمديرية مقبنة غرب تعز، والذي يتميز بملوحته ويستخدم في إعداد "السحاوق"، علماً أن سعره رخيص مقارنة بباقي الأنواع، ويصعب نقله إلى محافظات ودول أخرى لأنه معرض للتلف بسبب افتقاره إلى الصلابة اللازمة.
وبين الأنواع أيضاً الجبن التعزي الضبابي، أو ما يسمى "العوب" الذي يُصنع ويجهّز في منطقة وادي الضباب جنوبي تعز، وهو رطب ما يجعل فترة صلاحية قليلة، ويتناوله الناس عادة مع حلويات يمنية أو مع فطير بلدي، ولا يمكن تصديره إلى المحافظات والدول الأخرى إلا إذا وُضع في ثلاجات للحفاظ عليه من التلف، والإبقاء على خصائصه وطعمه.
ويصنع الجبن التعزي الكدحي في منطقة الكدحة، ويشبه الجبن التعزي العرفي الذي يصنع في منطقة الأعراف، علماً أن المنطقتين تابعتان لمديرية مقبنة.
ويمتاز الجبن التعزي الكدحي والجبن التعزي العرفي بالطعم الحلو، ويتمتعان بدرجة صلابة جيدة تجعلهما يصلحان للتصدير إلى المحافظات والدول الأخرى.
ويقسم الجبن التعزي من حيث نوع اللبن الذي يستخدم فيه أكان الإبل أو الأبقار أو الماعز الأكثر جودة وانتشارا من النوعين السابقين. كما يقسم الجبن التعزي بحسب صلابته الناتجة من تعرضه لعملية التدخين المعروفة بـ "الكباء".
وفي منطقة الباب الكبير الأثرية، أحد أبواب مدينة تعز القديمة، يقع محل عبد الجبار الصلوي لبيع الجبن التعزي الأكثر شهرة في المدينة، باعتبار أن عبد الجبار يزاول المهنة منذ أكثر من 30 عاماً.
ويقول عبد الجبار: "يصعب حالياً نقل الجبن من مناطق صناعته إلى داخل مدينة تعز، إذ تحتم الحرب وحصار جماعة الحوثيين المدينة سلوك طرقات فرعية بديلة ووعرة، وكانت مسافة طريق تمتد ساعة واحدة من منطقة صناعة الجبن إلى داخل المدينة، ثم باتت ست ساعات في طريق بديلة حالياً، ما رفع تكاليف النقل وبالتالي أسعار الجبن التعزي".
وعن أسعار الجبن التعزي يقول الصلوي إنه "يتراوح بين 2000 (1.3 دولار) و30 ألف ريال (20 دولاراً)، إذ يعتمد على النوع، وكلما زادت صلابة الجبن زاد سعره، وأيضاً على ميزات الحلاوة أو الملوحة".
ويؤكد الصلوي أن أسعار الجبن التعزي تضاعفت عشر مرات، إذ كانت تباع القطعة الصغيرة بـ500 ريال (33 سنتاً) قبل الحرب، في حين باتت 5 آلاف ريال (3.3 دولارات) حالياً نتيجة زيادة التكلفة وارتفاع الأسعار.
وظلت عملية صناعة الجبن التعزي خارج اهتمام الحكومات المتعاقبة في اليمن، والتي غضت طرفها عنها ولم تمنحها أي اهتمام أو رعاية رغم أنها مهمة.
وجعل ذلك من يصنعون الجبن يتمسكون بهذه المهنة ذات الطابع التقليدي وتواجه تحديات وصعوبات كثيرة حالياً، أبرزها الحصول على اللبن في ظل غياب المراعي الخاصة بتربية الأبقار والأغنام، وصعوبة جلب مادة "اللفح" من معدة صغار الماعز التي تعد المادة الرئيسية في عملية التجبين.
وضاعف الوضع الاقتصادي المنهار في اليمن تكاليف عملية صناعة الجبن التعزي، وزاد صعوبة تصديره إلى الأسواق المحلية، في ظل ضعف القدرة الشرائية للمواطنين. وتسبب ذلك بركود تجارة الجبن التعزي مقارنة بالسنوات التي سبقت اندلاع الحرب في اليمن.
إلى ذلك تسبب انعدام وسائل التخزين المتمثلة في الثلاجات في تدني الإنتاج الذي تأثر أيضاً بغياب الرؤية الخاصة بتصدير المنتج إلى الأسواق.
وحالياً تدنت العائدات المادية لصانعي الجبن التعزي الذين انشغل بعضهم بمهن وحرف أخرى، ما يهدد باندثار هذه الصناعة التقليدية.
* فخر العزب