
قيود السياسة وشظايا الفن.. واقع التشكيليين اليمنيين في الحرب
فرضت معادلة السياسة والمصالح في اليمن تأثيرات كبيرة على الأدب والفنون، وخاصّة الفن التشكيلي، حيث انعكست الصراعات وطبيعتها على تجارب الفنانين، مما خلق قيوداً ومحاذير وتوجّسات كثيرة.
هذه العوامل شوشت طبيعة الفن والحياة الشخصية للفنانين، سواء كانوا ممن استوعبتهم فضاءات اللجوء والنزوح في بلدان عربية وأجنبية خارج اليمن، أو ممن اختاروا البقاء لظروف معيشية قاهرة، لتظلّ المعاناة والمكابدات والاغتراب الداخلي والنفسي القاسم المشترك بينهم.
صالات العرض بعد الحرب
بالعودة إلى صالات عرض الفنون التشكيلية في اليمن بعد الحرب، فإنَّ العوامل التي هيمنت إبانها ما زال تأثيرها سلبياً وكبيراً بوصفه جزءاً من تبعات وميراث ثقافة الصراع التي سادت عقوداً،
وما تزال حتى الآن تفرض إملاءاتها بالرغم من أشكال "الهدنات السياسية" المعلنة بين حين وآخر.
فلا يكاد الفنانون التشكيليون يلمسون بوادر استقرار تتيح فرصاً لعرض أعمالهم وفق أسس ومعايير فنية، سواء في صالات تتبع جهات ومؤسسات حكومية أو خاصة إلا نادراً.
في الماضي، كانت هذه الأمور تلبي ولو قدراً يسيراً من طموح الفنان في المشاركة، سواء ضمن آخرين أو في صورة عروض خاصة لأعمال وتجارب فنانين متحققين في "صالات" و"معارض استعادية".
عادة ما تبدو هذه المعارض حين إقامتها أشبه بتظاهرة ثقافية وفنية لافتة يحظى خلالها الفنان التشكيلي بغطاء عام وشامل من الحضور الثقافي والإعلامي المستحق بما هو أداة للإشهار والانتشار والحوار والتصريح والتفاعل.
اليوم، في ظل توافر عدد نادر من صالات العرض العامة، فإنها غالباً ما تستأثر بمشاركات موسمية يرتبط الموضوع والمعروض فيها بإملاءات أيديولوجية لذكرى أو مناسبة عابرة في رسميات التقويم البرامجي،
وليس بفكرة الفن بوصفه نتاجا فرديا جماليا وفعلا حرّا تتخلل عروضه أعمال جديدة متفردة ومتمردة فنياً بأفكارها ورؤاها المجاوزة لكل مألوف.
إشكاليات التسويق
كمثل باقي الفنون الأخرى، يعدُّ الفن البصري جزءاً لا يتجزأ من نسيج المجتمع الثقافي. تأثيرات الحرب والنزوح كانت قاسية على تجارب فنانيه. ورغم وجود البدائل الرقمية لتسويق الفن،
إلا أن الإشكالية تبقى في المجتمعات التي تعتمد على المعيلين، مما يؤدي إلى العويل بسبب كثرتهم.
هذا أثّر بشكل كبير على مستويات عيش الأفراد وبيوتات الفن، ففضلوا الخبز على تسوّل الإعلان أو الترويج للوحة تستحق الوصول والمكافأة، حيث وجدوا الفن البصري في آخر سلم أولويات المجتمع والأفراد مع رواتبهم "المقطوعة" إلى أجل غير مسمى.
غياب دعم الثقافة بشكل كامل أدى إلى تلاشي أي تأثير أو تدبير لإدارة إشكاليات الثقافة والمجتمع معاً.
وباعتبار أن المشكلة الجذرية ثقافية، استعصى الحل على الجميع، واستنكفوا عن إيجاد حل شامل. بدا الفن ككتلة عاجزة عن التعبير، تتناءى وتهذي في عزلتها، محاكية في صمتها "الصم الصياخيد".
نزعات جديدة
رغم هذا كله، تجدر الإشارة إلى أن بعض التجارب الفنية تتبع نزوعاً نحو التجديد أو التجريب، الذي ينفذ إلى صميم كل تجربة أصيلة تنبثق من واقع اجتماعي ينشد التحول والتغيير.
تعتمد هذه التجارب على التجربة الذاتية والموقف الجمالي والفني للرسام، مما يتيح انطلاقة تمتلك شروطها الفنية بضوء التجربة وأفق استلهام ما قد تتركه أعمال الفنانين الملهمين لأجيال في محيطهم البعيد أو القريب.
كثيراً ما تبقى تجارب هؤلاء الفنانين وأعمالهم وجدارياتهم، سواء في حياتهم أو بعد رحيلهم، عناوين أيقونية تغدو مع الوقت مرجعيات بصرية فنية وواجهات حضارية.
تقترب هذه الأعمال من كونها علامات سيميولوجية في الميادين، وأفكارا تُدرّس لطلاب الفنون بما هي أساليب مجددة وفضاءات للتحليق، متفلتة من القيود والأطر الضيقة التي تقلّل من تأثير الفنون التشكيلية البصرية وحضورها والتفاعل معها.
* محيي الدين جرمة
شاعر وصحافي يمني