
مهرجان أفينيون... استماع معاصر إلى أم كلثوم
في دورته التاسعة والسبعين، التي انطلقت في الخامس من الشهر الحالي وتستمر حتى السادس والعشرين منه، يُخصّص مهرجان أفينيون الفرنسي (Avignon Festival) مساحة استثنائية للاحتفاء باللغة العربية، في بادرة فنية وثقافية تمثّل انفتاحاً نادراً من أحد أعرق المهرجانات الأوروبية على الثقافة العربية، بماضيها وتراثها وحاضرها المعاصر.
واختار مدير المهرجان، البرتغالي تياغو رودريغيز (Tiago Rodrigues)، كلمة "معاً" شعاراً لهذه الدورة، مستلهماً الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش. وتُستحضَر هذا العام أجواء "ألف ليلة وليلة" ضمن الروح العامة للمهرجان، بحسب المنظمين.
وبعد أن كانت اللغتان الإنكليزية والإسبانية ضيفتي الشرف في الدورتين السابقتين، تحلّ اللغة العربية ضيفة هذا العام، ليس بوصفها وسيلة تواصل فحسب، بل باعتبارها بوابة إلى مشهد ثقافي حيّ ومتنوّع.
ويُخصّص نحو ثلث البرنامج لهذا التوجّه، ما يتيح للجمهور الفرنسي والدولي نافذة واسعة على الإبداع المسرحي والموسيقي العربي، بتنوّعه الجغرافي وتعدّد أساليبه الفنية.
لحظات تجريبية
في بيانه الافتتاحي، أوضح تياغو رودريغيز أنّ اختيار اللغة العربية ضيفة شرف هذا العام ينطلق من الإيمان بقدرة الفنون على مدّ جسور الحوار والانفتاح، مشيراً إلى أنّ العربية "لغة المعرفة والحوار التي يتحدث بها الناس من جميع المعتقدات والأديان".
تحت هذا العنوان العريض، تتوزّع فعاليات عربية عدّة في مجالات المسرح والرقص والموسيقى والقراءات الشعرية والحوارات الفكرية.
ومن بين أبرز الأسماء المشاركة: الممثلة المغربية بشرى أهريش، والمخرج اللبناني علي شحرور، والثنائي التونسي سلمى وسفيان عويصي، والفلسطيني بشار مرقص، والسورية خلود باسل، وغيرهم من الفنانين الذين يمثّلون مشارب ومدارس فنية متنوّعة، تجمع بين الانخراط السياسي والانشغال الجمالي، وبين التراث المحلي والتجريب الحداثي.
في حضرة أم كلثوم
في ساحة الشرف في قصر البابوات، الفضاء الرمزي الأبرز في مهرجان أفينيون، تحتضن الدورة الحالية فعالية خاصة تُحيي الذكرى الخمسين لرحيل كوكب الشرق أم كلثوم، من خلال عرض موسيقي ضخم من إنتاج مشترك بين مهرجان أفينيون ومعهد العالم العربي في باريس.
يحمل العرض طابعاً احتفالياً ويجمع سبعة فنانين وموسيقيين من خلفيات موسيقية وجغرافية متنوّعة، تحت إشراف الموسيقي والمنتج اللبناني زيد حمدان، المعروف بأعماله التي تمزج بين التراث العربي وأنماط الموسيقى الإلكترونية المعاصرة، ما يمنح العرض بُعداً خاصاً من ناحية التقديم والأسلوب، بعيداً عن الصورة التقليدية للحفلات التكريمية.
يشارك في هذا العمل عدد من الفنانين العرب والفرنسيين، من بينهم: عبد الله منياوي ومريم صالح وناتاشا أطلس من مصر، وسعاد ماسي وكاميليا جوردانا من الجزائر، إضافة إلى فرقة موسيقية تضمّ عازفين من لبنان وتونس والمغرب.
ما يلفت في هذا العرض أنّه لا يقدّم أم كلثوم بوصفها أيقونة ماضوية فقط، بل يستحضرها كجسر فني يربط بين التقليد والحداثة،
وبين الأصالة والانفتاح على الآلات والتقنيات الموسيقية الجديدة. إنها لحظة وجدانية وتاريخية، تدعو الجمهور الأوروبي إلى الاستماع إلى أغاني أم كلثوم واختبار هذا الإرث الكبير بروح الحاضر وابتكار الشباب.
ليلة عربية
لا يقتصر الحضور العربي في مهرجان أفينيون على العروض الفنية فقط، بل يمتدّ إلى الحوارات والندوات والقراءات، التي ينظّمها المهرجان بالشراكة مع معهد العالم العربي.
من بين المشاركين في هذه اللقاءات: الروائية الفرنسية من أصول مغربية ليلى سليماني، والصحافي اللبناني نبيل واكيم، والمؤرخ الفلسطيني إلياس صنبر.
تتناول هذه الفعاليات موضوعات متنوّعة، مثل العلاقة بين اللغة والهوية، وتمثيل العالم العربي في الإعلام والثقافة الغربية، وتجارب الترجمة، وتاريخ المسرح العربي.
كما ينظّم مهرجان أفينيون ليلة عربية خاصة، تتضمّن عروضاً موسيقية وقراءات شعرية وفيديوهات أدائية، تعكس تنوّع المشهد الفني العربي المعاصر، وتبرز تقاطعاته مع قضايا العصر، من المناخ والهجرة، إلى النسوية وتعدّد الهويات.
من الواضح أنّ المهرجان، في نسخته الحالية، لا يطرح اللغة العربية بوصفها لغة جمالية فقط، بل يقدّمها مدخلاً إلى فضاء ثقافي غني ومتشابك، تتلاقى فيه تيارات من المغرب والمشرق والخليج، وتتفاعل فيه الذاكرة الجمعية مع ابتكارات الأجيال الجديدة.
إنّه احتفاء نادر بلغة قلّما تحظى بهذا القدر من التقدير على منصات المهرجانات الكبرى في الغرب. ومع أنّ اللغة العربية ليست حاضرة هذا العام كلغة مهيمنة على كامل البرنامج،
إلا أنّ جعلها "ضيفة شرف" يمثّل خطوة رمزية مهمّة، تعكس رغبة في المراجعة والانفتاح، وفي تصحيح نظرة نمطية طالما اختزلت الثقافة العربية في بعد تراثي جامد، أو في تمثيلات سياسية متوتّرة.
إنها خطوة تضع اللغة العربية في مركز الاحتفاء، لا باعتبارها لغة الآخر، بل بما هي مدخل إلى ثقافة حيوية ومؤثرة.
وفي حضرة أم كلثوم، وكلماتها التي تخترق الزمن، يجد الجمهور نفسه أمام لحظة نادرة تتقاطع فيها المقامات الموسيقية والنصوص الشعرية، من دون أن تغيب عنها ظلال اللحظة الراهنة وتعقيداتها.