محو أحياء «عن بكرة أبيها»: إسرائيل تهيّئ لاحتلال غزة
الرأي الثالث - الأخبار
تتكرر الصور والخرائط ذاتها في عدّة مناطق في قطاع غزة؛ حيث يحوّل جيش الاحتلال الإسرائيلي المحاور إلى شوارع واسعة، وينشئ المقرات والبنى التحتيّة، مؤسساً عبر ذلك بقاءه على المدى الطويل هناك، في ما يمثل عملياً عودة إلى ما قبل عام 2005، عندما كان القطاع لا يزال مُحتلاً، وفيه عدة مستوطنات إسرائيلية.
وطبقاً لما نقلته صحيفة «هآرتس» عن أحد الضباط الإسرائيليين الميدانيين، فإن «الجيش لن يخرج من هنا قبل عام 2026».
ومع أنه «لا يُقال لنا بوضوح إن كانت ثمة نيّة (لإعادة المستوطنات)، فإن الجميع بات مدركاً إلى أين تتجه الأمور».
وتتقدم الأعمال الإنشائية، بحسب الصحيفة، بصورة سريعة؛ فما كان قبل بضعة أشهر عبارة عن أكوام ترابية وبقايا المباني المدمرة، بات الآن «موقع بناء في مراحل متسارعة من التطوير، فيما عُبّدت الطرق الواسعة، ونُصبت أعمدة الهوائيات الخلوية، بالإضافة إلى البنية التحتية للمياه والصرف الصحي والكهرباء والمباني المتنقلة، والثابتة».
ولا ينفذ جيش الاحتلال، وفقاً للصحيفة، هذه الأعمال في «محور نتساريم» فقط، بل تتكرر في أكثر من محور ومنطقة في القطاع. أما الهدف منها فهو إقامة بنية تحتية لتخدم الجيش في البقاء مدة طويلة في غزة.
صحيح أنه منذ بدء الحرب، كان الاحتلال قد سيطر على أراضٍ ومحاور في القطاع، غير أن المعطيات التي وصلت الصحيفة بشأن نطاق الأعمال وسرعتها، تدل على إنشاء جيوب تعيد إلى الأذهان المدة التي سبقت تنفيذ خطة «فك الارتباط» عن غزة في عام 2005، أي الشارع الواسع في «نتساريم» وما حوله من مواقع عسكرية.
كذلك، يشق الجيش شارعاً آخر في محور «كيسوفيم» المقابل لمستوطنة «كيسوفيم» الإسرائيلية في «الغلاف»، وتحديداً بين محافظتي دير البلح وخانيونس جنوبي القطاع.
وإلى جانبه، ثمة منطقة تجمع للقوات الإسرائيلية، بالإضافة إلى منطقة مكشوفة «حتى الآن على الأقل».
على أن التغييرات التي يجريها الجيش، ليست الدليل الوحيد على نيّته البقاء مستقبلاً في القطاع؛ إذ إن ضباطاً وجنوداً في الخدمة الاحتياطية والنظاميّة تلقوا أخيراً «غراف (رسماً بيانياً) قتالياً لعام 2025»، يُستدل منه على استمرار تموضع الجيش في غزة في العام المقبل.
وبحسب ما قاله الجنود والضباط في مقابلات مع الصحيفة، فإن الجيش بدأ في الأسابيع الأخيرة سلب مساحات واسعة في قلب القطاع، حيث يدمّر مباني وبنى تحتية قائمة، تحت ذريعة «التخلص من خطرها على الجنود»، أي «لكي لا يتمكن أحد من السكن فيها»، بالقاموس العسكري. ومقابل هذا التدمير الممنهج، يقوم الجيش بتأسيس بقائه عبر شق الشوارع الواسعة، وتمهيد الأرض للإقامة الطويلة فيها.
وفي هذا الإطار، نقلت الصحيفة عن ضابط خدم في الصيف الأخير في أحد المقرات في منطقة محور «نتساريم»، قوله إنه «توجد داخل الحاويات المحصنة نقاط كهرباء، ومكيّف هوائي وكل شيء، وهذا مستوى أعلى (للبنى التحتية) في جميع المواقع التي خدمت فيها».
وذكر أنه «كان لدينا مطبخان (واحد للألبان وآخر للحوم ليطابق الشريعة اليهودية)، وكنيس.. حتّى إن غرفة العمليات نفسها كانت داخل حاوية محصّنة».
وتابع: «الانطباع هو أن هذا ليس مجرد ترتيب مؤقت للتعامل مع منطقة خطرة؛ إذ إننا كنا نسير من دون خوذ ودروع واقية، كما أننا لعبنا كرة القدم داخل الموقع، وشوينا اللحم كلّ مساء، ما يعني أنه لم نشعر بأننا في منطقة حرب».
ومنذ ذلك الحين، مر حوالى شهرين من دون أن تتحسن الظروف هناك، وفقاً للصحيفة؛ إذ يجري كل ما تقدّم بموازاة تفريغ شمال القطاع من المدنيين،
وتحويله إلى جَيْبٍ عسكري. وبينما يدّعي مسؤولون كبار في المستويين السياسي والأمني أن «إخلاء الشمال ليس ضمن خطة الجنرالات» القاضية بفرض حصارٍ على تلك المنطقة وإفراغها من سكانها، وحجب المساعدات الإنسانية عنها،
يؤكد ضباط رفيعون تحدثوا مع «هآرتس»، «أن ما يُقال للمواطنين في إسرائيل لا يعكس بالضرورة ما يحدث على أرض الواقع».
وبحسب هؤلاء، فإن الجيش الإسرائيلي «مطالب حالياً بإخلاء القرى والمدن من سكانها».
وكما يوضح أحد الضباط، فـ«في هذه المنطقة كان يعيش أكثر من نصف مليون فلسطيني عشيّة الحرب، والآن بقي اليوم حوالى 20 ألف شخص، وربما أقل».
وتشمل منطقة عمليات التطهير العرقي الإسرائيلية الجديدة، جباليا وبيت لاهيا ومناطق أخرى شمالاً، لم يعد فيها بيت ملائم للسكن. وهذا «ليس من قبيل المصادفة؛
إذ يتضح من مقابلات مع ضباط وجنود في المنطقة، وبعد جولةٍ فيها، أن الجيش يعمل بشكل ممنهج على تسوية المباني (المتداعية أساساً) بالأرض»، وهو ما حاول أحد الضباط الكبار تبريره قائلاً: «إننا لا نستيقظ صباحاً لنشغّل جرافات D9 لنهدم حياً.
لكن إذا كنا نحتاج إلى التقدم إلى مناطق معينة فإننا لا نخاطر بقواتنا بواسطة كمائن وألغام».
وبالرغم من ذلك، فإن بعض سكان القطاع يرفضون النزوح، وحتّى أن هناك من نزح إلى مدينة غزة ليعود لاحقاً، وخصوصاً أن التنقل من منطقة إلى أخرى بالنسبة إلى العائلات التي سقط الكثير من أفرادها أساساً جرحى، يبدو صعباً.
ومع اقتراب فصل الشتاء، يعود بعض هؤلاء لكي يحتموا بمنازل متداعية، مفضلين عملياً النزوح إلى اللايقين. وحتّى لدى عودتهم، لا تترك قوات الاحتلال لهم منفذاً؛ إذ كما يقول ضابط إن «ما نطالب القوات بتنفيذه في الشهور الأخيرة في هذه المنطقة هو ما دفع السكان إلى التحرك جنوباً، وتسوية البيوت بالأرض».
وبحسب «هآرتس»، فإن الخطة التي ينفذها الجيش تدل على نية سيطرة عسكرية طويلة الأمد. وتنقل عن أحد الجنود قوله إنه «عندما تقف على محو نتساريم، اليوم، لا ترى بيوتاً في أماكن معينة في غزة»؛ إذ يبلغ عرض المحور 5 – 6 كلم حالياً، ويجري توسيعه إلى سبعة كلم، فيما طوله نحو 9 كلم، ويؤدي إلى المكان الذي تواجدت فيه مستوطنة «نيتساريم».
وبموازاة ذلك، يوسّع الجيش أيضاً محور «فيلادلفي» الذي يفصل بين القطاع ومصر؛ إذ سلب أراضي هناك يبلغ عرضها بين 1- 3 كلم. وفيما يطالب المستوى السياسي، نظيره العسكري، بتوسيع العرض لكلم آخر، يشير الجيش إلى أن هذا يتطلب تدمير أحياء كاملة في رفح، وقد يؤدي إلى «غضب دولي».
وإلى جانب المحاور الثلاثة (نتساريم، كيسوفيم، وفيلادلفي)، يعمل الجيش على استكمال منطقة عازلة بعرض 1 كلم على الأقل، تشمل المناطق الواقعة على طول الجدار الفاصل بين غزة وإسرائيل، مع ما يتطلبه هذا من مسح أحياء فلسطينية عن بكرة أبيها.
وختمت الصحيفة مستنتجةً أن ما يجري تنفيذه في منطقة كيبوتس «كيسوفيم»، يشير إلى أن عملية الهدم والتدمير لم تبلغ نهايتها. ففي الأسبوع المنصرم، أعلن الجيش فتح محور مساعدات إنسانية هناك يمتد إلى داخل القطاع، وهو محور «ضيق وقصير»،
غير أن ضباطاً إسرائيليين أشاروا إلى أنه بهذه الطريقة بدأت مشاريع توسيع المحاور الأخرى، والتي يُفترض أن يصبح بموجبها «كيسوفيم» مشابهاً لـ«فيلادلفي».
أمّا بالنسبة إلى نقاط عبور النازحين، والتي كانت عبارة عن حواجز عسكرية يُفتش فيها النازحون ويُعتقلون أحياناً، باتت الآن «أشبه بتيرمينال، أي معبر حدودي بين دولتين».