إسرائيل و«الشرق الأوسط الجديد»
يمثّل وعد بلفور عام 1917 (سبقه، على فكرة، بأشهر قليلة، وعد الفرنسي جول كمبن) «الخطيئة الأصلية» - بتعبير آفي شلايم - لسبب أساسي هو أنه شقّ الطريق إلى الارتقاء باستيطان الحركة الصهيونية أرضَ فلسطين إلى إنشاء دولة (وطن قومي)، لا أن يظل مصير هذا الاستيطان كمصير مستعمرات البارون موريس دي هيرش في الأرجنتين، أو كما اقتصرت عليه دعوة وزير الخارجية البريطاني اللورد بالمرستون في 1840 (لا ينبغي نسيان موافقة كل من الكونغرس والرئيس الأميركيين حينها على الوعد كمؤشر على عمق التبنّي الغربي للمسألة).
على أي حال، إن الشاهد هو في أن أحداث هذه السنوات والعقود، السابقة على 1948، مادة كافية لدراسة هوية إسرائيل الدولة ودورها في منطقتنا وطبيعة علاقتها بالغرب، تُغني عن ملاحقة اللاصق الأيديولوجي أو العودة إلى أحلام نابليون وتنظير ثيودور هرتزل عن القلعة الحضارية أو طموح الصهيونية البروتستانتية.
إنّ موافقة الغرب على إنشاء وطن قومي، كان محفوفاً حينها بنقاشات محمومة، وفي جو أوروبي لا يزال يسوده العداء لليهود، ولأجل هذا فإن المواقف الحاسمة أيامها باتجاه تبنّي «الوطن القومي» تكتسب أهمية.
لنأخذ مثالاً موقف ريتشارد ماينرتسهاغن (ضابط استخبارات ألنبي الذي استولى على القدس عام 1917) وهو يقدّم التوصيات الآتية حول أهمية ربط التحالف مع الصهيونية بالمصلحة البريطانية:
«قد نواجه تحدياً قومياً يؤثّر في مكانتنا. إننا لا نستطيع مصادقة العرب واليهود في آن واحد، لذا أقترح أن نصادق أولئك الذين يمكن أن يحافظوا على عهدهم - أي اليهود - فرغم أننا عملنا الكثير من أجل العرب، إلا أنهم لا يعرفون ما هو الاعتراف بالجميل، حتى إنهم سيكونون عبئاً علينا، في حين سيكون اليهود ذخراً لنا... أضف إلى ذلك أن اليهود أثبتوا قدرتهم على الحرب… إن من شأن اقتراحي تعزيز مكانتنا في الشرق الأوسط».
في كتابه «مكان بين الأمم: إسرائيل والعالم» (1993)، يتوقف بنيامين نتنياهو عند هذه النقاشات، وتحديداً توصيات ماينرتسهاغن، قبل 30 سنة من قيام إسرائيل، والمنحازة إلى اليهود الموالين للغرب منهم وأهمية إنشاء دولة لهم، فيقتبس منه الآتي: «في عام 1966، من المقرر أن تنتهي سيطرتنا على قناة السويس، وفي تلك السنة سنُطرد من مصر، بحيث تستطيع مصر حينئذ إغلاق القناة في وجه سفننا... لقد اعتبرت فلسطين دائماً مفتاح الدفاع عن الشرق الأوسط… إننا نستطيع الاعتماد على اليهود بالمحافظة على الاتفاقيات، في حين لا نستطيع الثقة بالعرب إطلاقاً...
وإذا كانت لدينا قواعد في فلسطين، فستكون مكانتنا في الشرق الأوسط مضمونة إلى الأبد».
مثّلت هذه المقاربة العنصرية/ الاستعمارية لاحقاً سمة مركزية ثابتة في العلاقة بين إسرائيل والغرب، تقيم تراتبيّة بين عملاء الغرب ووكلائه العرب الذين قاتلوا، مثل الصهاينة، مع الإنكليز في الحرب العالمية وأخذوا الوعود بدولة عربية (وهو أمر يذكّرنا بمشاريع التطبيع التي تحافظ فيها إسرائيل على موقع المركز).
حصل ذلك بعد أن وجد الغرب مصلحته في تجاوز معاداة اليهود فأصبح يعاملهم كـ»أوروبيين» (ولو أنه فعلياً الأمر مشروط بأن يكونوا صهاينة، وأن يكونوا خارج أوروبا، وهذا الحلّ بالاستخدام المشروط لا يبعد عن أن يأخذ صفة أحد متحوّرات العداء لليهود).
رغم كل ذلك، اتسمت علاقة الكيان الناشئ في 1948 مع الغرب بالبرود، حتى تفطّن صهاينة إسرائيل إلى تفعيل دورهم التأسيسي في محطتين أساسيتين: حرب الجزائر وحرب السويس 1956. في الحربين، جلّت المشاركة العسكرية إلى جانب الفرنسيين والبريطانيين دورَ الوكيل الضارب للغرب في المنطقة، وهو ما قبضت إسرائيل ثمنه تسلّحاً بالقوّتين الجوّية والنووية.
وكان في عام 1951 أن كتب مستشار بن غوريون، مايكل عساف، مقالاً في «هآرتس» تناول فيه افتراض تعزيز قوّة إسرائيل وتأثير ذلك: «(إنها) طريقة مناسبة لقوى الغرب للحفاظ على توازن القوى السياسية في الشرق الأوسط. وفقاً لهذا الافتراض أعطيت إسرائيل دور كلب الحراسة... فإذا فضلت القوى الغربية في وقت من الأوقات لسبب أو لآخر إغلاق أعينها، يمكن الاعتماد على إسرائيل كي تعاقب بشكل مناسب، دولة واحدة أو أكثر من جيرانها، ممن قلة أخلاقهم تجاه الغرب تخطت الحدود المسموح بها».
برز، من ثم، التقارب بين إسرائيل والولايات المتحدة، في ظل وراثة نفوذ بريطانيا ومتطلبات الحرب الباردة مع السوفيات. وفي مطلع الستينيات، أنهى كينيدي حظر الأسلحة الذي فرضته إدارتا أيزنهاور وترومان على إسرائيل، وأنشأ تحالفاً عسكرياً معها وأطلق مفهوم «العلاقة الخاصة» الذي توجّه به مخاطباً غولدا مائير.
وبلغت العلاقة أوجها في الثمانينيات إبان عهد ريغان الذي وصف إسرائيل بـ»الذخر الإستراتيجي» لواشنطن لإمكانية الاستناد إليها في مواجهة السوفيات والمد الشيوعي في المنطقة.
عشية انتهاء الحرب الباردة وتفكك الاتحاد السوفياتي، أثارت هذه التحولات موجة قلق في إسرائيل، حدّ أن مارتن إنديك، مدير «معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى»، قال حينها: «تمر البيئة الاستراتيجية الدولية بمرحلة من التغير السريع لا بد من أن يؤدي إلى تقليص أهمية إسرائيل [بالنسبة إلى الولايات المتحدة] مع مرور الزمن».
لكن ما حصل، بعد حرب الخليج ومسارات «السلام» في التسعينيات وتقلّبات مرحلتي بوش الأب وكلينتون، أن إسرائيل استفادت من صعود المحافظين الجدد و»الحرب على الإرهاب»، إذ صارت تقدّم نفسها كضحية مماثلة لأميركا وكمكافح أوّل لـ»الإرهاب» إيّاه الذي أعلنت عليه واشنطن حرباً بلا هوادة وقسّمت العالم فسطاطين حضاريين وأطلقت مشروع «شرق أوسط جديد».
اللافت أنه قبل ذلك، أي خلال التسعينيات، برز مساران في إسرائيل للدور الإقليمي استخدم كلاهما مصطلح «الشرق الأوسط الجديد»: الأول، مع شمعون بيريز موقّع اتفاق أوسلو وعراب مسار «السلام» وصاحب كتاب يحمل اسم المصطلح نفسه.
والثاني، مع بنيامين نتنياهو الرافض للمسار والذي تلقّت حكومته الأولى في 1996 مشورة اليهودي الأميركي ريتشارد بيرل (أحد صقور المحافظين الجدد وأبرز الداعين إلى غزو العراق) عبر تقدير استراتيجي شاركت فيه مجموعة باحثين حمل عنوان «الانفصال النظيف» (A Clean Break: A New Strategy for Securing the Realm)، دعا نتنياهو إلى مسار معاكس لبيريز ورفض التسوية وضم الضفة وغزة واتباع أسلوب عدواني مع الدول العربية كخطوات على طريق «شرق أوسط جديد حقاً وسلمي».
ما بعد الطوفان
منذ هجوم السابع من أكتوبر، يكرر بنيامين نتنياهو وعده بتغيير «الشرق الأوسط»، متوعّداً بتعديل «الواقع الاستراتيجي» للمنطقة.
وفي عملية اغتيال السيد نصرالله، هو وجد ذروة الفكرة، فحرص على إطلاق اسم خاص يحمل الدلالة بالاتجاه ذاته (النظام الجديد) على العملية التي تستهدف العنوان الأبرز لمحور المقاومة.
ووعدُ نتنياهو في المرحلة الجديدة من الحرب يستهدف كل القوى التي راكمت إعدادها وخلخلت آخر سنين الموازين بوجه إسرائيل ما أتاح تحقق «طوفان الأقصى» ومحاوطة الاحتلال بالصواريخ ومجموعات المقاومة المتعاونة في ما بينها، أي إنه لن يوفّر إيران، أو «رأس الأخطبوط» بتعبيره.
دفعت نتنياهو، داخلياً، للسير بإسرائيل إلى هذه الوثبة الطموحة، الحاجةُ الملحة إلى بناء أمني جديد يرث عقيدتها الأمنية المنهارة صبيحة «الطوفان» والتي كان وضع أسسها بن غوريون: الردع، الإنذار الاستراتيجي، الحسم. الحربُ «حربُ استقلالٍ ثانية»، كما وصفها، أي تبديد قلق وجودي لا يقر معه قرار للكيان إلا إذا ما تغيرت بيئة استراتيجية سمحت بحدوث 7 أكتوبر أو يمكن أن تسمح بمثيلاتها وأخطر منها.
إلا أن الموجبات الداخلية للحرب، لم تكن كافية، في لحظة الضعف الإسرائيلية، للتنطح لمعارك إقليمية صاخبة. لذا، عاد نتنياهو إلى الدفاتر القديمة، أي إلى دور الوكيل الضارب للمعسكر الغربي الذي تمرّسته إسرائيل في حربي الـ 56 والجزائر.
هذا ما قدّم أطروحته وقتما رفع الخريطتين المتقابلتين على منبر الأمم المتحدة: «محور اللعنة» و»محور البركة» ــــ في إشارة إلى أن المشروع لا يختزل في الأهداف الأمنية بل يتعدى إلى تكامل بالمصالح الاقتصادية والسياسية، يبدأ من الهند ويصب في الغرب مروراً بمحور التطبيع العربي الإسرائيلي.
الجواب على عرض نتنياهو أفصحت عنه مواقف الولايات المتحدة مبطّنة أو صريحة؛ من تسلّمه القنابل الخارقة للتحصينات ومنحه الغطاء والمدد للحرب على لبنان، وصولاً إلى مقالة أنتوني بلينكن في «الفورين أفريز» قبل أسابيع والتي حدّد فيها معالم الاستراتيجية الأميركية للعام المقبل، أبرز سماتها هو الربط بين «الساحات» على المسرح الدولي.
هو اتّهم «التحريفيين الأربعة» (الصين وروسيا وإيران وكوريا الشمالية) بأنهم عاقدون العزم على تغيير المبادئ الأساسية للنظام العالمي و»تقويض ركائز القوة التي تتمتع بها الولايات المتحدة وتتجلى في تفوقها العسكري والتكنولوجي، وعملتها المهيمنة، وشبكة تحالفاتها وشراكاتها التي لا مثيل لها».
فازت إسرائيل، إذاً، بمناقصة المساهمة في تعديل ميزان القوى مع «المحور الإيراني» (والذي تعثّر رغم الحصار والمفاوضات والضغط الأمني) وقد رُبطت الصفقة بالمعركة الأميركية على الساحة الدولية، بما يتقاطع مع تصوّر بلينكن أعلاه، عبر التسويق للخريطة التي رفعها نتنياهو والمتضمنة للمر الهندي.
بين زمن وآخر، يجدّد الغرب منح نفسه، ووكيلته إسرائيل، الحق في «إعادة تشكيل» المنطقة وفقاً لإرادته ولمصالحه. إلا أن محور المقاومة، المكلوم بالإبادة والضربات الأمنية، وبالرغم منها، لا يبدو أضعف، ذاتياً أو دولياً، مما كان عليه الحال في حرب 2006 إبان مشروع غونداليزا رايس للشرق الأوسط الجديد أو في محطات مفصلية مماثلة، ولا إسرائيل أقوى من تلك المرحلة ولو أنها اليوم أكثر جاهزية وحافزية للعدوان.
* خليل كوثراني