
100 يوم من حرب دونالد ترامب على النظام متعدد الأطراف
الرأي الثالث - وكالات
لم يأت هجوم الرئيس الأميركي دونالد ترامب وإدارته على النظام الدولي متعدد الأطراف ومنظماته المختلفة التي كانت الولايات المتحدة من الدول المؤسسة للكثير منها، كالأمم المتحدة ومحكمة العدل الدولية والجنائية الدولية وغيرها، بما هو مفاجئ أو جديد.
لكن ترامب يبدو الآن مصمما أكثر من أي وقت مضى على تكثيف هجومه بشكل لم يسبق له مثيل في تاريخ الولايات المتحدة الحديث بما فيها فترة حكمه الأولى (2017 ـ 2021).
دونالد ترامب يعادي حقوق الإنسان
ويقول مدير قسم حقوق الإنسان في الاتحاد الأميركي للحريات المدنية (ACLU)، جميل دكور ، إن دونالد ترامب "ليس أول من يُعادي حقوق الإنسان والحقوق المدنية في الولايات المتحدة وخارجها.
هناك، بالطبع، العديد من الرؤساء الذين اتخذوا مواقف مماثلة، ولكن الفرق الآن يتمثل في نطاق وشدّة الهجوم على النظام الدولي عموماً، والنظام متعدد الأطراف خصوصاً، الذي بُني بعد الحرب العالمية الثانية لحماية حقوق الإنسان ومنع الفظائع".
وانسحب ترامب من منظمات دولية في فترة حكمه الأولى، كما اتسمت علاقته بالأمم المتحدة خلال فترة حكمه الأولى بالتوتر الشديد، لكنها لم تؤد إلى انسحاب تام أو تفكيكها وإضعافها بشكل كامل، من دون أن يعني هذا أن تلك الأنظمة مثالية أو أنها تمكنت من القيام بوظيفتها لمنع الجرائم والمحاسبة، لكن تفكيكها أو إضعافها بشكل شامل ستكون له تبعات أكبر، بحسب الكثير من الحقوقيين بمن فيهم دكور.
على سبيل المثال، انسحب الرئيس الأميركي دونالد ترامب خلال فترة ولايته الرئاسية الأولى من اتفاقية باريس للمناخ، لكن الانسحاب واجه معارضة أميركية داخلية وخصوصاً من حكّام ولايات مختلفة، وسمحت الاستقلالية للولايات باستمرار الكثير منها بالالتزام ببنوده بشكل أو بآخر، ما خفّف من حدة الانسحاب الحكومي.
كما انسحب ترامب من الاتفاق النووي الإيراني، ليعود الآن للتفاوض مع طهران. وتقدم في نهاية فترة حكمه الأولى، في يوليو/ تموز 2020، بطلب الانسحاب من منظمة الصحة العالمية التابعة للأمم المتحدة.
كما انسحب من منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم الثقافية (يونيسكو)، وأوقف تمويل صندوق الأمم المتحدة للسكان، وفرض عقوبات على أعضاء في المحكمة الجنائية الدولية،
وانسحب من مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة عام 2018، بعد سنة ونصف السنة من بدء حكمه وليس مباشرة.
وجاء ذلك بعد تقرير صادر آنذاك عن مجلس حقوق الإنسان حول الفقر في الولايات المتحدة.
لكن إدارة ترامب، على الرغم من انسحابها بصفة عضو، قرّرت البقاء في المجلس بصفة دولة مراقبة، بل إنها تعاونت مع مجلس حقوق الإنسان عندما قام بمراجعته الدورية (كل خمس سنوات لكل دولة) للولايات المتحدة ووضع حقوق الإنسان فيها عام 2020.
كما لم ينضم إلى الاتفاقية العالمية بشأن الهجرة آنذاك، ولم يدفع جميع مستحقات قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة، وأوقف تمويل وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، وغيرها.
وفي هذا السياق، يلفت دكور إلى أن ولاية دونالد ترامب الرئاسية الأولى، وإن اتسمت بالعدائية الشديدة للنظام المتعدد الأطراف والمنظمات الدولية المرتبطة بها، لكنه لم ينسحب تماماً منها وظلّ بطريقة أو بأخرى ضمنها.
ويتوقف دكور عند نقطة مهمة تتعلق بالفترة الأولى من حكم ترامب، وهي أن إدارته حاولت "إعادة تعريف ووضع تراتبية على قضايا حقوق الإنسان والنظام الدولي المرتبط بها".
ويشرح في هذا السياق أن "وزير الخارجية آنذاك مايك بومبيو قاد تلك المساعي الخطيرة من خلال لجنته المعنية بالحقوق غير القابلة للتصرف"،
مضيفاً أن "اللجنة وتقريرها تمّ تصميمهما لإضفاء غطاء من الشرعية على مساع خطيرة تخلق تسلسلاً هرمياً جديداً للحقوق يُعلي من شأن الدين والملكية على حساب حقوق الإنسان الأساسية".
ويشير دكور إلى أن ذلك "يتماشى نوعاً ما مع الفهم الفلسفي والأيديولوجي لليمين في الولايات المتحدة الذي ينظر إلى حقوق الإنسان باعتبارها امتداداً للفلسفة القانونية للولايات المتحدة وحماية حقوق الإنسان التي تقتصر، على سبيل المثال، على الحقوق المدنية والسياسية.
يعطي الأولوية، على سبيل المثال، للحرية الدينية، و(حماية) اليمين للأقليات المسيحية في جميع أنحاء العالم، وليس للأقليات المسلمة مثلاً. كما أنهم، وبينما كانوا يحاولون تعزيز (الحرية الدينية)، فقد فرضوا حظراً على دخول المسلمين للولايات المتحدة خلال الإدارة الأولى".
ويحذر دكور من أن إدارة ترامب الحالية تأتي بأجندة تغيير أعمق وأخطر، ويعطي مثالاً على ذلك "الأمر التنفيذي الذي أصدره ترامب والذي يسعى إلى مراجعة وإعادة النظر في مشاركة الولايات المتحدة في المنظمات والمعاهدات الدولية،
والحديث هنا عن مئات إن لم يكن آلاف المعاهدات التي وقّعتها الولايات المتحدة وصادقت عليها على مدى عقود في القرن الماضي، ولكن بالنسبة لنا، فإن أكثر ما يثير قلقنا هو تلك التي ستتناول حقوق الإنسان، وحقوق اللاجئين، وحقوق العمّال".
إعادة تشكيل النظام العالمي ومعنى حقوق الإنسان
يذكّر دكور بأن "الولايات المتحدة لم تصادق تاريخياً على المعاهدات الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان أو تنفذها بشكل جدّي أو تطبّقها بالكامل، كما لم تصادق إلا على ثلاث من أصل تسع معاهدات دولية أساسية لحقوق الإنسان،
وحتى في تلك الحالات، كانت تفتقر إلى أي إنفاذ في النظام المحلي".
ويرى أنه على الرغم من ذلك "فإن ما سيفعله هذا الأمر التنفيذي هو محاولة إعادة التفاوض على نسق مشاركة الولايات المتحدة مع العالم، خصوصاً التزاماتها الدولية،
ومحاولة إنشاء نوع جديد من النظام العالمي الجديد المتعدد الأطراف، وهو نظام يعتمد على فهم الدول لمصالحها الخاصة (والضيّقة) بدلاً من المصلحة المشتركة في حماية الإنسانية والصالح العام وضمان السلام والأمن، فضلاً عن التنمية في جميع أنحاء العالم".
وعلى الرغم من انطلاق دونالد ترامب في فترة حكمه هذه أيضاً من أجندة "أميركا أولاً"، إلا أنه هذه المرة يضاعف جهوده لتغيير وتقويض النظام الدولي من خلال اتخاذ العديد من الخطوات بما فيها مراجعة التمويل وخفضه وسحبه على نطاق واسع للعديد من المنظمات الدولية وبرامج مساعدات ترتبط بالسياسات الخارجية،
وبذلك يحاول ممارسة ضغط أكبر خلف نفوذ أكبر والتأثير على مواقفها. وبهذا يرى دكور أن المحاولة هي إعادة تشكيل هذا النظام بطريقة أكثر شراسة وفجاجة تتكئ بشكل أساسي على مصالح الولايات المتحدة الضيقة.
فهم مشوه
يخلق هذا المنحى الترامبي المتعنت فهماً مشوهاً لحقوق الإنسان الدولية ويربطها بالطابع الرأسمالي وحماية الشركات ومصالح شريحة معينة نافذة في الولايات المتحدة. كما يستهدف آليات حقوق الإنسان المختلفة ووقف تمويلها وبذلك إعادة جدولة النفوذ.
ولا يقتصر هذا على تلك التي تعنى بشكل مباشر بحقوق الإنسان ولكن أيضاً بتلك التي تعنى بالمساعدات الإنسانية أو حتى تلك التي تتخذ لها سياسات لا تتفق مع سياسات دونالد ترامب وحزبه الجمهوري كالتي تتعلق بالمناخ مثلاً.
تاريخياً كانت الولايات المتحدة أكبر مموّل لمؤسسات الأمم المتحدة، ليس فقط عن طريق الميزانية الإلزامية حيث تدفع قرابة 22% (الصين تدفع 20%)، بالإضافة إلى قوات حفظ السلام التي تمولها الولايات المتحدة نظرياً بنسبة 26%.
لكن الولايات المتحدة متأخرة بسداد ديونها في هذا الصدد، وهو نهج اتخذه العديد من الرؤساء الأميركيين في العقود الأخيرة، حيث من المفترض أن تدفع جميع الدول الأعضاء في الأمم المتحدة مستحقاتها للميزانية خلال الشهر الأول من كل عام،
لكن الولايات المتحدة غالباً ما تدفعها أو تدفع قسماً كبيراً منها في نهاية العام، ما يخلق تحديات ومشاكل سيولة لدى المنظمة الأممية.
لكن الضغط الأكبر الذي تمارسه إدارة ترامب (وإدارات سابقة ولكن ترامب يأخذه إلى أقصى ما يمكن) يتعلق بالمساهمات الطوعية التي تصل إلى أكثر من 20% من مجموع المساهمات الطوعية، وصلت عام 2023 إلى حوالي 12 مليار دولار من أصل 46 ملياراً تقريباً لمنظمات وبرامج الأمم المتحدة المختلفة بما فيها برنامج الغذاء العالمي والسكان و"يونيسكو" و"يونيسف" على سبيل المثال لا الحصر.
وبدأت هذه الإجراءات الأميركية وإن كانت في بدايتها تحدث تغييراً واضطرابات في عمليات وأنظمة الأمم المتحدة ومؤسساتها الدولية.
ويشدد دكور على "أن النظام الدولي متعدد الأطراف، أو القانون الدولي، ليس مثالياً أو فعالاً في حماية حقوق الإنسان حول العالم كما يجب، وهناك انتقادات مشروعة كثيرة تُشير إلى فشله في كثير من الأحيان في حماية المدنيين، خصوصاً من الجرائم الفظيعة، وقد شهدنا ذلك يحدث في أماكن كثيرة حول العالم بما فيها غزة...
لكن ما يحدث الآن هو أن جزءاً من الإجراءات التي تتخذها الولايات المتحدة تُفاقم الآن ضعف النظام المُضعف أصلاً".
لكن تبعات ذلك لن تقتصر على الأمم المتحدة بل أيضاً على العلاقات الدولية.
ويضرب دكور مثالاً على ذلك في نهج الولايات المتحدة تجاه جنوب أفريقيا وقطعها المساعدات عنها وإعلان سفيرها في واشنطن "شخصاً غير مرغوب به"، وكل ذلك بسبب قضية الإبادة أمام محكمة العدل الدولية ضد إسرائيل.
ويرى دكور ربطاً أساسياً هنا "بين سياسات الدول على الصعيد الدولي، لتنفيذ التزاماتها بمنع الانتهاكات الدولية للقانون الدولي، بما في ذلك الانتهاكات في سياق اتفاقية مناهضة التعذيب، وانتهاكات الإبادة الجماعية، وما تعتبره الإدارة الأميركية مخالفاً لسياساتها الخارجية".
وهنا تأخذ إدارة ترامب نهجاً أكثر شراسة في محاربة القانون الدولي، بحيث تعاقب الدول التي تحاول أن تقوم بالتزاماتها بموجب الاتفاقيات والمعاهدات الدولية آنفة الذكر.
ولا يتوقف عند الخارج وسياسات الولايات المتحدة، بل ينعكس داخلياً بحيث أصبحت إدارة دونالد ترامب تحارب الناشطين الذين ينتقدون إسرائيل والإبادة في غزة، تحت حجة أن ذلك يؤثر على سياساتها الخارجية ومحاولاتها لمكافحة اللاسامية.
لكن الإشكالية هنا تكمن أيضاً بأن لا علاقة للاسامية ومحاربتها بهؤلاء النشطاء الذين قسم مهم يهود أميركيون ويعارضون سياسات الولايات المتحدة ودعمها لحكومة أجنبية، إسرائيل، في حرب الإبادة ضد شعب محتل وأعزل.
لا شك أن الولايات المتحدة تزيد نفوذها من خلال مساهماتها للمنظمات بالإضافة إلى تسوية الشؤون العالمية بشكل أكثر اتساقاً مع السياسة الخارجية للولايات المتحدة.
ويشير دكور إلى ضرورة أن يكون هناك رد جماعي، لا سيما من جانب الدول التي تهتم جدياً بالحريات الأساسية وحقوق الإنسان الأساسية ومنع الفظائع.
وإن كان هذا يعني أنه يتعين عليها زيادة تمويلها وجهودها، وإلا فستخلق أنظمة عالمية خارجة عن القانون وواقعاً لن يؤدي إلا إلى جعل هذا العالم أكثر خطورة وعنفاً، ما سيدمر الكثير من الإنجازات التي تحققت منذ الحرب العالمية الثانية على الرغم من كل الشوائب في تلك الأنظمة.