
الخطوط الجوية اليمنية رمز انهيار بلد بأكمله
تمثل شركة الخطوط الجوية اليمنية نموذجاً يعكس حدة الأزمة العميقة التي يعيشها هذا البلد الغارق في الحرب منذ عقد من الزمن. فبين الفساد ودمار أسطولها جراء الغارات الإسرائيلية في مايو/أيار 2025، تحولت "اليمنية" من أحد رموز الجمهورية اليمنية إلى كيان محطم وممزق، شأنها شأن المجتمع ومؤسسات الدولة.
هذا التقرير الذي يسلط الضوء على تاريخ الشركة وحاضرها .
تأسست شركة خطوط طيران اليمن عام 1949، وتحولت عام 1978 إلى الخطوط الجوية اليمنية. وكانت صنعاء، حيث مقرها الرئيسي، عاصمة اليمن الشمالي ذي الحكم الملكي.
أما اليمن الجنوبي، وعاصمته عدن، فكان لا يزال تحت الحكم البريطاني، ولم ينل استقلاله ويتحول إلى النظام الاشتراكي إلا في أواخر الستينيات.
بعد توحيد الشطرين الشمالي والجنوبي عام 1990 وقيام الجمهورية اليمنية، اندمجت تدريجياً الإدارات والجيشان والمؤسسات الحكومية.
ولم تخلُ هذه العملية من صعوبات أبرزتها حرب صيف 1994 التي انتهت بهزيمة الانفصاليين الجنوبيين على يد أنصار الوحدة الذين كانت تهيمن عليهم النخبة الشمالية.
ومع الوحدة أُدمجت شركة الطيران الجنوبية "اليمدا"، التي تأسست عام 1971، في شركة الخطوط الجوية اليمنية.
رمز اليمن الموحّد ومفخرته
في تسعينيات القرن الماضي، مثّلت "اليمنية" في نظر الكثير من اليمنيين التجسيد الأكثر واقعية وفاعلية للوحدة بين الشمال والجنوب: فمن خلال الربط بين عدن وصنعاء، وكذلك مدن أصغر مثل تعز والحديدة والمكلا وسيئون والغيضة وجزيرة سقطرى، أرست الشركة، عبر طائراتها ومطاراتها، الهوية الوطنية اليمنية.
وقد اكتسبت هذه الوظيفة السياسية أهمية أكبر في ظل ضعف البنية التحتية للطرق، وانعدام السكك الحديدية، وعورة التضاريس. وهكذا، وفّر النقل الجوي قيمة مضافة حقيقية في المناطق النائية التي يصعب الوصول إليها، مثل المناطق الصحراوية الشاسعة أو الجبال الشاهقة.
في أواخر القرن الماضي، كان أسطول الشركة المكوَّن من نحو 20 طائرة يواكب المعايير الدولية. وعاشت "اليمنية" ما يشبه العصر الذهبي.
وكانت رحلاتها تعكس مشهداً فريداً من التنوع: يهودي يمني متجه إلى عمّان ليتابع طريقه سراً إلى القدس، بدوي يترك على مضض سلاحه "الكلاشنيكوف" قبل الصعود للطائرة في رحلته إلى العاصمة لتسوية بعض الأمور، ديبلوماسية أجنبية في مهمة، شيخ كبير يبحث عن العلاج، أو سائح ألماني يبحث عن المغامرة.
وكانت الشركة تغطي نحو ثلاثين وجهة. بالتوازي مع ذلك، اعتمدت سياسات تطوير السياحة في اليمن على الخطوط الجوية اليمنية للترويج لتاريخ البلاد ومواقعه الأثرية المدهشة وثرائه الحضاري الفريد.
فقد كان يُنظر إلى اليمن وجهة سياحية واعدة، سواء من داخل البلد أو من الخارج. وكانت المجلات ثنائية اللغة، المطبوعة على ورق مصقول فاخر، والتي تُوزع على متن الطائرات، واحدة من النوافذ النادرة التي تبرز هذه الصورة المشرقة.
وعكست هذه المجلات مظهراً من مظاهر الفخر الوطني، وحملت في طياتها وعداً بمستقبل أفضل يجمع بين التقنية والحداثة والازدهار لبلدٍ يُعد من بين الأفقر على مستوى العالم.
كما لعبت "اليمنية" دور حلقة وصل فاعلة، إذ فتحت مكاتبها في كبرى العواصم العالمية بمواقع مرموقة مثل جادة الأوبرا الراقية في قلب العاصمة الفرنسية باريس.
في صنعاء، شكّل برج اليمنية، رغم تواضعه مقارنة بأبراج دول الخليج، انطلاقة لنهج معماري حديث، راسماً ملامح أفقٍ عمراني ومشهداً حضرياً لا يزال حتى اليوم النموذج الوحيد في العاصمة.
غير أن هذا البرج تعرّض لحريق في يونيو/حزيران 2001، في حادثة بدت وكأنها مقدّمة لسلسلة من الأزمات التي واجهتها شركة طيران اليمنية لاحقاً،
من أبرزها اندلاع الحرب العالمية على ما سُمّي بـ"الإرهاب" عقب أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001، والتي لم تكن التحدي الأشد أثراً عليها فيما بعد.
محطة عبور لأبناء جزر القمر القادمين من مرسيليا
في تسعينيات القرن الماضي وبداية الألفية الجديدة، لم يقتصر تطوّر الخطوط الجوية اليمنية على اليمن فحسب، إذ كانت الشركة مملوكة بنسبة 49% للحكومة السعودية، فيما امتلكت دولة اليمن الحصة الباقية.
ورغم الاضطرابات التي شهدتها المنطقة مع بداية الألفية الجديدة، سمحت استثمارات المملكة الجارة عبر البنك الإسلامي للتنمية بشراء طائرات إضافية وفتح خطوط جديدة.
وبلغت الطموحات إلى حد تأسيس شركة منخفضة التكلفة عام 2008 حملت اسم "طيران السعيدة" بتمويل سعودي وتابعة لليمنية.
في تلك الفترة، شكّل مطار صنعاء محطة عبور منتظمة للعديد من المسافرين، سيما للقمريين المقيمين في مرسيليا والراغبين في العودة إلى وطنهم. وقد كُرِّس ذلك باتفاق رسمي بين الحكومتين اليمنية والقمرية يفرض اعتماد شركة اليمنية لتأمين هذا الخط.
لكن في 30 يونيو 2009، تحطمت طائرة رحلة متجهة من صنعاء إلى موروني، ما أودى بحياة 152 راكباً.
التحقيقات نسبت الحادث إلى خطأ في القيادة، وهو ما وجّه ضربة قاسية لسمعة الشركة التي انهارت تصنيفاتها الدولية وتكبدت خسائر مالية كبيرة.
هذه الكارثة جاءت بعد حادثة سابقة؛ قبلها بأشهر فقط حين اضطرت طائرة تابعة لليمنية إلى الهبوط الاضطراري في الخرطوم، في السودان.
وعلى أثرها تم إلغاء طلبيات شراء طائرات جديدة من "إيرباص". وفي عام 2024، أصدرت محكمة الاستئناف في باريس حكماً نهائياً بإدانة اليمنية بتهمة القتل غير العمد، بعد دعوى رفعتها عائلات ضحايا من الجالية الفرنسية-القمرية.
قضية محورية في الحرب
بحلول نهاية العقد الأول من الألفية الثانية، لم تعد البيئة الداخلية ملائمة لتطور قطاع الطيران. وأصبح أي أمل في عودة الشركة للتوازن أمراً شبه مستحيل في ظل عدم الاستقرار الإقليمي.
بداية مع فشل "الربيع اليمني" في عامي 2011–2012 في إحداث التغيير المأمول، واندلاع الحرب الأهلية بعد سيطرة الحوثيين على صنعاء في سبتمبر 2014 وتدخل التحالف العسكري بقيادة السعودية في مارس/آذار 2015.
وسرعان ما أصبحت اليمنية موضع أطماع بين أطراف الصراع، إذ كانت شركة الطيران ترمز إلى الدولة وسيادتها (النسبية)، في وقتٍ كان كل طرف يسعى إلى الظهور بمظهر المدافع عن المصلحة الوطنية.
سعى الحوثيون، الذين سيطروا على صنعاء، إلى إظهار حسّ المسؤولية، فتركوا "اليمنية" تعمل في البداية بشكل مستقل.
لكن في نهاية المطاف، خرجت الشركة تماماً عن نطاق سيطرتهم؛ نتيجة إغلاق مطار صنعاء بشكل دائم في أغسطس/آب 2016 بقرار من السعوديين وبسبب القصف المتكرر للمنشآت.
ومنذ ذلك الحين، أصبحت عودة الرحلات إلى مطار صنعاء قضية محورية. وباتت "اليمنية" تعمل فقط من المناطق الخاضعة لسيطرة خصوم الحوثيين- عدن وشرق حضرموت- لكنها احتفظت بجزء من أجهزتها الإدارية والمالية في صنعاء.
وكان الجيش السعودي وشركات التأمين يحظرون على طائرات الشركة المبيت في الأراضي اليمنية حتى لليلة واحدة، الأمر الذي أدى إلى ارتفاع تكاليف رسوم التوقف في مطارات المنطقة، وخاصة في عمّان.
في ديسمبر/كانون الأول 2020، أسفر الهجوم، الذي يُعتقد أن الحوثيين نفذوه على مطار عدن أثناء نزول أعضاء الحكومة من إحدى رحلات اليمنية، عن مقتل 28 شخصاً بينهم مسؤولون، من دون أن تُصاب الطائرة بأذى.
وفي ظل الأزمة المستمرة بدت الشركة هيكلاً فارغاً لا حياة فيه؛ إذ تخلّت عن جزء من أسطولها، وارتفعت تكاليف التأمين بشكل هائل، واضطرت إلى تقليص أنشطتها إلى الحد الأدنى، مع استمرارها في لعب دور حلقة وصل لا غنى عنها مع العالم الخارجي.
في زمن الحرب، كانت اليمنية أيضاً رهاناً مالياً، إذ أصبحت مصدراً للسيولة للأطراف المتحاربة.
وتسببت فضائح الفساد، منذ عام 2015، في إضعاف موقف الرئيس عبد ربه منصور هادي، الذي استُبدل في عام 2022 بمجلس رئاسي على رأس الدولة المعترف بها دولياً. وكان ابنه جلال مرتبطاً بشكل معروف بعقود لتزويد اليمنية بالوقود بأسعار باهظة.
ونظراً لقلة العرض وكثرة الطلب، ارتفعت أسعار التذاكر بشكل كبير، الأمر الذي أثار استياء الركاب الذين كانوا يواجهون أيضًا تأخيراً في الرحلات وإلغاءً لبعضها وتراجعاً في مستوى الخدمة.
كما تكررت حوادث السلامة: ففي عام 2019 انفجرت إطارات طائرة عند الهبوط في القاهرة، وفي العام التالي تعطّل محرك إحدى الطائرات أثناء الطيران.
أحلام السلام
وبحكم الصعوبات التي واجهتها اليمنية، خسرت الشركة بعض المناطق وحصة من السوق لصالح منافسين أجانب.
على سبيل المثال تكفلت شركات صغيرة بتسيير رحلات بين عدن وجيبوتي. أما جزيرة سقطرى، التي هي محل أطماع سياحية واستراتيجية لدولة الإمارات العربية المتحدة، فتم ربطها مباشرة بأبوظبي عبر شركة الطيران الإماراتية "العربية للطيران".
وبعد مفاوضات شاقة بين الحوثيين والسعوديين، استؤنفت رحلات اليمنية من وإلى صنعاء في مايو/أيار 2022، ما منح سكان الشمال متنفساً كبيراً.
وقد تزامنت تلك المرحلة مع توقف القصف السعودي، مما أتاح آفاقاً للسلام سمحت لبعض المغتربين بالعودة إلى صنعاء، ومكّنت اليمنية من الاستمرار في تجسيد حلم مجتمع موحد.
وهكذا، شكّلت الرحلات المنتظمة نحو عمّان انطلاقاً من العاصمة صنعاء- بعد انقطاع دام ست سنوات- نوعاً من عودة الأمور إلى الوضع الطبيعي.
ومع ذلك، مارس الحوثيون ضغوطاً من أجل فتح وجهات جديدة. وشدّدوا رقابتهم على حسابات الشركة، واحتجزوا طائرات لإبقائها متوقفة في صنعاء. ففي عام 2023، جرى احتجاز أربع طائرات بطلب من الحوثيين الذين رفضوا تحويل أموال اليمنية من صنعاء إلى عدن.
ورغم ذلك، فإن تنظيم نحو أربعين رحلة استثنائية من صنعاء إلى جدة لنقل الحجاج- شارك فيها قادة حوثيون في يونيو/حزيران 2024- كان مؤشراً على إمكانية التهدئة.
كما أظهر ذلك أن الانخراط العسكري للحوثيين في البحر الأحمر دعماً لغزة، الذي بدأ قبل ستة أشهر، لم يكن أنتج تأثيره الكامل بعد.
قصف إسرائيلي وعقوبات أميركية
مع مرور الوقت، أدت الهجمات الأميركية والإسرائيلية ضد الحوثيين إلى إغراق اليمنية في أزمة تهدد وجودها أكثر من أي وقت مضى.
إذ استهدفت الغارات البنى التحتية المدنية بهدف إضعاف القدرات العسكرية للحوثيين، وضربت مراراً مطار صنعاء وكذلك مطار الحديدة.
وفي 26 ديسمبر 2024، استهدفت الضربات الإسرائيلية مدرج مطار صنعاء في اللحظة التي كان فيها موظفو الأمم المتحدة، إلى جانب المدير العام لمنظمة الصحة العالمية تيدروس أدهانوم غيبرييسوس، يستعدون للصعود إلى الطائرة.
وفي 6 مايو 2025، دمّر الإسرائيليون طائرتين من طراز إيرباص A320 وطائرة A330 كانت متوقفة فارغة على مدرج مطار صنعاء.
وفي 28 مايو، استهدفت غارة أخرى طائرة من طراز A320 في ظروف مشابهة، لكن هذه المرة قبيل صعود الحجاج المتجهين إلى مكة المكرمة.
وقد ظهر هؤلاء الحجاج، مرتدين ثياب الإحرام البيضاء، يصورون أنفسهم وهم يرقصون تحدياً للعدو الإسرائيلي. وقد انتشر الفيديو لاحقاً على شبكات التواصل الاجتماعي.
ومع ذلك، فإن هذه الجرأة لا يمكن أن تخفي الخسائر المباشرة التي تكبدتها الشركة نتيجة عمليات التدمير هذه، والتي بلغت نحو 500 مليون دولار (428 مليون يورو).
يضاف إلى ذلك أن العقوبات الأميركية التي فرضها الرئيس دونالد ترامب في يناير/كانون الثاني 2025 ضد الحوثيين، اشترطت على وجه الخصوص أن تحول الشركة تعاملاتها إلى نظام مصرفي خارج سيطرة الحوثيين.
واليوم، لم يتبقَّ من "اليمنية" سوى خمس طائرات، وشركة ممزقة، وركاب محاصرين؛ في مشهدٍ يجسد حقيقة بلدٍ يجثو تحت وطأة الانهيار.
لوران بونفوا
باحث في المركز الوطني للبحث العلمي (CNRS)، معهد العلوم السياسية بباريس (Sciences Po)
ينشر بالتزامن مع موقع أوريان 21