الجوع التاريخي!!
في 11 سبتمبر 1911م، وُقّع صلح دعان بين أحمد عزت باشا، ممثل السلطان العثماني، والإمام يحيى حميد الدين، في قرية دعان القريبة من عمران، وذلك بعد سلسلة من الحروب بين الطرفين.
كانت الدولة العثمانية آنذاك ترى أن أوضاع اليمن تحتاج إلى تهدئة شاملة، خاصة مع تعدد الجبهات المرهقة لها في ليبيا والبلقان وغيرها، إذ كان يكفيها ما استنزفته حروب اليمن من جنود وموارد على مدى سنوات طويلة.
ومن خطوات التهدئة، أرسل السلطان العثماني عبد الحميد الثاني في عام 1908 ـ أي قبل صلح دعان ـ طلبًا إلى صنعاء لإيفاد وفد من كبار السادة والعلماء والأعيان، بهدف مناقشة أسباب القتال مع العثمانيين وإيجاد حل.
وصل الوفد اليمني إلى إسطنبول، وبقوا فيها مدة طويلة يتفرجون ويتنزهون، كما هو حالنا اليوم لا خلاف، فما أشبه الحاضر بالماضي.
وكان العثمانيون يراقبون سلوك الوفد اليمني الذي كان المفروض يكن ذو افكار وطنية. وبعد وقت طويل، تمكنوا أخيرًا من مقابلة السلطان، لكن اللقاء لم يدم سوى عشر دقائق. عشر دقائق كمجاملة لانه لم يحترمهم احد.
كان السبب في قصر اللقاء وفشله يعود أولًا إلى سلوك الوفد غير العقلاني اي مجموعة انتهازية دون هدف، وثانيًا لعجزهم عن عرض القضية التي جاؤوا من أجلها،
إضافة إلى الانقسامات بينهم حول نقاط أساسية، ليس فقط في كيفية حل الأزمة، بل حتى في الهدف من مجيئهم إلى إسطنبول.
أغلبهم مثل من نشاهدهم اليوم امامنا ولايغرنكم مظاهرهم ـ من الانتهازيين ـ رأوا في المثول أمام السلطان ليس فرصة وطنية لليمن وفرصة تاريخية وانما فرصة شخصية لا تعوّض للحصول على مناصب وامتيازات وبيوت ومراكز في اليمن اي شقاة باليومية في بلدهم لتركي، ونسوا اليمن وقضيتهم الوطنية، رغم ما كانوا يدّعونه من ثورية ووطنية.
ولهذا، لم يحترمهم السلطان ولا أي شخص في "الباب العالي". وانتهت الضيافة، وعادوا إلى صنعاء كما ذهبوا، بلا مكاسب وطنية أو حتى شخصية تُذكر، ولم يسجّل لهم التاريخ موقفًا يقتدى به كما فعل مع المجاهد عمر المختار رحمة الله عليه او بقية الثائرون في العالم اصحاب القضايا الوطنية.
ورغم فشل الوفد الأول، طلب السلطان مع ازمة الخلافة العثمانية بعد صلح دعان وفدًا يمنيًا آخر، هذه المرة طلبوا وفد من رجال الإمام تحديدًا، لا من أهل صنعاء وحاشيتها.
لكن هؤلاء لم يتعلموا من إخفاقات سابقيهم لان اليمني كان دون ذاكرة والوفد السابق صور العشر دقائق انها ذو معنى، إذ لم يحاسب أحد الوفد الأول، فظلّ الأمر وكأنه فرصة للراحة والتنزّه للجميع.
ومن مضحكات القدر وصل الوفد الجديد إلى إسطنبول، وفعلوا كما فعل الذين قبلهم وكأنها ثقافة متجذرة.
انشغلوا بالفسح ورغبوا بجمع المكاسب الشخصية بدل الدفاع عن قضية اليمن، حتى إذا التقوا السلطان، قدّم كل منهم طلبات تخصه هو، وفشلوا بدورهم في عرض قضية بلادهم.
اليوم، وبعد أكثر من قرن، لم يتغير شيء. من يتحدث عن "السلام" و"المستقبل" في المؤتمرات والغرف السياسية وحتى الورش الصغيرة، يتصرف كثير منهم كسلوك وفدي إسطنبول قبل مئة سنة.
لا احترام للذات، ولا تفكير بالمجتمع، والهمّ الوحيد هو المكاسب الشخصية. الكل متاجرٌ بقضية اليمن، بأقنعة مختلفة، لكن السلعة واحدة: معاناة اليمنيين.
لقد مرت أكثر من 110 سنوات ولم يتغير سلوك النخب في المشهد اليمني ولا ثقافتنا في التعاطي مع القضايا الوطنية، إذ يضيع الهدف الوطني بمجرد أن يصل يمني إلى عاصمة من عواصم الجوار أو المجتمع الدولي او يقابل مسؤول خارجي، فتطغى مصالحه الخاصة على قدسية القضايا الوطنية، ويسعى وبشدة ليسوق لنا انه ذو معنى للمرحلةالقادمة.
ولازلت اذكر إحدى السياسيات في المشهد وهي تجسد الانتهازية بقولها "أنا لا يهمني إلا مصلحتي، اي لاتحدثني عن ثقافة ثوار فيتنام او غيرهم"،
وقال أستاذ أكاديمي وسياسي في لقاء معه بروف "الأمر لا يحتاج تفسيرًا، إنه الجوع التاريخي"، مستشهدًا بحكاية شيخ يمني كبير كان ينحني باستمرار رغم أن بطنه ممتلئة، لا بسبب الجوع المعيشي، وإنما بسبب الجوع التاريخي المترسّخ، ذلك الجوع الذي يجعل البعض مستعدًا لبيع القضايا الوطنية مقابل أي مكسب خاص.
اليوم الأدهى أننا نحارب كل شخص يحاول أن يصنع لنا كرامة أو يرفض تحويل القضية الوطنية إلى مصدر رزق، فنشيطنه لأنه يعيق ارتزاقنا وانتهازيتنا والتي نجملها بقولنا أنا انسان براغماتي.
وملخص متابعتي للشأن العام اننا في اليمن نعيش صراعًا بين القيم والمبادئ من جهة دون وجود أدوات تغيير حقيقي بيدنا ولا حاضنة مجتمعية لذلك، والانتهازية النفعية من جهة أخرى وهذه سوقها مزدهر كبيئة ونتيجة لحكم النظام السابق ل 33 عام.
والغالب اليوم أن كثيرًا من الفاعلين في المشهد اليمني ليسوا سوى "طلّابين" أو "شحاتين" سياسيين يتاجرون باسم الوطن منذ أكثر من قرن وهذا ماقاله الرئيس السابق ايضا. صرنا نخجل أكثر كل يوم ونحن نعيش أزمات بأيدينا أدوات حلها لو امتلكنا القيم الوطنية والكرامة وغلبنا المصلحة الوطنية.
عندها فقط سيكبر اليمن بنا ونكبر به بين الأمم، بدلاً من أن نكون عمال يومية لدى الخارج، الذي يرى أن لكل سياسي يمني "سعرًا"، كما قال لي أحد الإخوة الخليجيين بقوله "أنت تتحدث بهذا الأسلوب لأنك لا تستلم رسالة بنكية نهاية الشهر تقول دخل حسابك هذا المبلغ"، أي أن كثيرين ينحنون أمام حفنة دولارات الى أن تنكسر ظهورهم.
اليوم الخيار أمامنا، إما أن نكون أحرارًا كبارًا في سلوكنا نمثل اليمن بإرثها الحضاري، أو نكون كمن سبقنا ننحني للممول ونقول: "تمام". وعندها، لا يحق لنا لوم غيرنا حين يتركوننا ننهش بعضنا ونمزق بلدنا بأيدينا، لأننا بدأنا بتمزيق قيمنا وإنسانيتنا قبل أن تمزق الجغرافيا.