اليمن: حين يصبح التاريخ أطلالاً في مرآة الغير
أقف حائراً ومذهولاً أمام ما يتكرر على منصات التواصل الاجتماعي: منشورات ومقاطع فيديو من بعض "الخليجيين".
بعضها يحمل انتقاصًا وازدراءً لليمنيين، كاشفًا عن ضحالة في التربية والإنسانية.
والبعض الآخر يأتي بإعجابٍ مشوبٍ بالاستعلاء: "انظروا إلى صنعة هذا اليمني، اسمعوا عن شهامة ذاك!"
وكأن اليمني تحول إلى مجرد قصة عابرة أو مشهد يُصفّق له، بينما نحن الأصل والتاريخ والعمق.
المؤلم حقاً هو رؤية بعض اليمنيين يلهثون وراء هذه المقاطع، ينشرونها بتباهٍ كأنها وسام شرف، دون إدراك أن هذا في جوهره انتقاص.
فحين تنتظر من الآخر أن يُعرّفك على نفسك، فإنك تُقرّ ضمنًا بأنك أصبحت أطلالًا لا تُرى إلا في انعكاس نظرة غيرك.
لكن، من المسؤول عن هذا الحال المزري؟
ليست شعوب الجوار، ولا مقاطع الفيديو السطحية. المسؤول الأول هم حكامنا، قديماً وحديثاً. من عهد الأئمة الزيدية الذين أفرغوا اليمن من هويتها وحوّلوها إلى قطيع،
مرورًا بثورة سبتمبر التي انطفأ نورها سريعاً مع حكم علي عبد الله صالح الذي أطفأ شعلة التحرر، ومهّد الطريق لابتلاء الوطن بمغوله الجدد: الحوثيين.
اليمن ليس مجرد جغرافيا منكوبة أو وطن يتسوّل الاعتراف. اليمن هو تاريخ، وحضارة، وأصل لا يُمحى.
يكفينا العودة إلى النقوش المسندية التي تتحدث عن ممالك سبأ وحِميَر وقتبان، لندرك أننا لم نكن يومًا تابعين، بل صُنّاع حضارة جنوب الجزيرة.
ابن خلدون في "المقدمة" يؤكد أن العرب العاربة أصلهم من اليمن، وأن القبائل القحطانية والعدنانية تفرعت من هذه الأرض. المسعودي في "مروج الذهب" وصف اليمنيين بأنهم "أهل حضارة وعمران".
يوم كانت الجزيرة العربية قاحلة وأهلها يتنقلون خلف قطعانهم، كان اليمن يبني سد مأرب العظيم المذكور في القرآن، ويُصدِّر البخور واللبان إلى الرومان، ويُؤمِّن طرق التجارة.
بينما كان أولئك الأعراب يقتاتون على خير اليمن، بل إن بعضهم عمل جنودًا مرتزقة يتقاضون معاشاتهم وهباتهم من خزائن صنعاء وظَفار.
فليعلم هؤلاء الذين يفاخرون اليوم بدويلاتهم النفطية، أن دُويلاتهم لم تكن سوى بذورٍ سقطت من شجرة اليمن الكبرى. أصلهم وجذورهم ضاربة هنا، وإن أنكروا ذلك.
لست هنا في مقام استعلاء، بل في مقام تذكير لنا ولهم: اليمن، رغم كل ما عاناه، يظل هو الأصل، والجذر، والحضارة، والبوصلة.
وما نعيشه اليوم ليس قدرًا أبديًا، بل محطة عابرة صنعتها أخطاء طغاة الداخل وتحالفات الخارج.
لسنا بحاجة إلى شهادة من أحد تثبت كرمنا أو شجاعتنا؛ هذه صفات تجذّرت فينا منذ سبأ وحِميَر.
ما نحتاجه هو أن نصحو نحن، نستعيد وعينا، ونكسر القيد الذي ورّثه حكامنا، ونعود كما كنا: منارةً تهدي لا تابعاً ينتظر شهادة.
أما الآخرون، فليقرأوا التاريخ قبل أن يتطاولوا. اليمن لا يختزل في مقطع فيديو أو مديح عابر. اليمن هو التاريخ الذي إن محوتموه، محوتم أنفسكم معه.