
طه حسين ومحنة التراث: قراءة في كتاب «الشعر الجاهلي»
يعد كتاب «في الشعر الجاهلي» لطه حسين من أبرز المؤلفات التي أثارت جدلاً واسعا في تاريخ الأدب العربي الحديث،
وقد شكّل لحظة فاصلة في تطور الفكر النقدي العربي. ظهر هذا العمل في سياق ثقافي كان يقدّس الموروث، ولا يجرؤ على مساءلته، فجاء طه حسين ليكسر هذا الصمت،
ويطرح أسئلة جذرية حول أصالة الشعر الجاهلي، وصحة نسبه، وقيمته الأدبية الحقيقية. ولعلّ أهمية الكتاب لا تقتصر فقط على محتواه النقدي، بل تمتد إلى الطريقة التي استُقبل بها، والجدل العميق الذي أثاره،
والذي لا يزال حياً حتى اليوم في دراسات الأدب والتراث. حين أصدر طه حسين كتابه «في الشعر الجاهلي» لم يكن غافلا عن طبيعة ردود الفعل التي سيثيرها عمله،
فقد صرّح في مقدمته قائلاً: هذا نحو من البحث عن تاريخ الشعر العربي جديد، لم يألفه الناس عندنا من قبل. وأكاد أثق أن فريقا منهم سيلقونه ساخطين عليه، وأن فريقا آخر سيُزْوِرّون عنه ازورارا» .
هذه العبارة تكشف وعيه بمدى زعزعة أفكاره لثوابت المؤسسة الثقافية العربية، وإدراكه أن المشروع الذي يقدّمه سيواجه برفض وجداني، قبل أن يُمحّص عقلانياً.
كان طه حسين حريصاً على الوضوح التام في طرحه النقدي، حيث أعلن صراحة، «أحب أن أكون واضحا جليا، وأن أقول للناس ما أريد أن أقول دون أن أضطرهم إلى أن يتأولوا ويتمحلوا،
ويذهبوا مذاهب مختلفة في النقد والتفسير والكشف عن الأغراض التي أرمي إليها». وهذا الإصرار على الوضوح هو ما جعل أسلوبه مباشرا وصادماً، وهو ما ساهم أيضا في حدة الجدل الذي رافق صدور الكتاب.
في تحليله للشعر الجاهلي، اتخذ طه حسين من القرآن الكريم معيارا للمقارنة، معتبرا إياه المرجع الأدق لتمثّل الروح الدينية للعرب في الجاهلية، قائلاً: «فالقرآن إذن أصدق تمثيلاً للحياة الدينية عند العرب من هذا الشعر الذي يسمونه الجاهلي».
وفي هذا الطرح، نجد محاولة لإزاحة الشعر الجاهلي عن موقع الوثيقة التاريخية المطلقة، وإخضاعه للمراجعة النقدية. كما شكك في أصالة اللغة التي نُسب بها هذا الشعر إلى الجاهليين،
فكتب: «نقول إن هذا الشعر الجاهلي لا يمثل اللغة الجاهلية، ولنَجْتهدْ في تعرف اللغة الجاهلية هذه ما هي».
لم يكن طه حسين يقصد نفي وجود الشعر الجاهلي تماما، بل أراد التأكيد على أن ما وصلنا لا يمكن اعتباره دائما ممثلا صادقا للواقع اللغوي والتعبيري الجاهلي، خاصة إذا وضعناه في ضوء التطورات اللغوية التي طرأت بعد الإسلام.
ويزيد تأكيده على هذا حين قال: «ولست أنكر أن اختلاف اللهجات كان حقيقة واقعة بعد الإسلام، ولست أنكر أن الشعر استقام للقبائل كلها رغم هذا الاختلاف، ولكن أظن أنك تنسى شيئا يحسن ألا تنساه، وهو أن القبائل بعد الإسلام اتخذت للأدب لغة غير لغته».
بهذا المعنى، يؤسس طه حسين لفرضية أن الشعر الجاهلي، في شكله المتداول، قد صيغ بلغة أدبية موحدة استُحدثت بعد الإسلام، ما يطعن في نسبته الزمانية إلى الجاهلية الحقيقية.
وفي معرض حديثه عن القوى التي قد تكون ساهمت في اختلاق الشعر ونسبته إلى الجاهليين، يتساءل طه حسين بذكاء نقدي: «والشعوبية، ما رأيك فيهم وفيما يمكن أن يكون لهم من الأثر القوي في انتحال الشعر والأخبار وإضافتها إلى الجاهليين؟».
يفتح هذا السؤال الباب أمام تأويلات سوسيولوجية وتاريخية أعمق، حيث يشير إلى احتمال تدخل بعض التيارات الفكرية بعد الإسلام، مثل الشعوبية، في إعادة تشكيل التراث الأدبي الجاهلي بما يتناسب مع صراعات الهوية والانتماء في العصر العباسي على وجه الخصوص.
وقد أثار هذا الطرح موجة من الردود المتباينة، فبينما رأى فيه البعض فتحا جديدا في مجال النقد، واتجاها نحو التحرر من سلطة الماضي، هاجمه آخرون بعنف، متهمين إياه بالتشكيك في التراث الإسلامي والطعن في صدقية الشعر العربي.
من بين هؤلاء النقاد من رأى أن طه حسين اعتمد في كثير من أطروحاته على مقارنات غير دقيقة، أو أهمل السياق الشفهي الذي كانت تُروى فيه القصائد، وهو ما قد يفسر بعض التناقضات في الأسلوب أو المضمون.
ومع ذلك، فإن أصواتا نقدية شابة في ذلك الوقت رأت في مشروع طه حسين لحظة تأسيسية لقراءة جذرية ومتحررة للتراث، ودعت إلى تبني المنهج العلمي في دراسة الأدب العربي، كما يحدث في الآداب الأوروبية.
أحدث الكتاب، إذن، زلزالا في النقد العربي، وفرض نفسه مرجعا لا يمكن تجاوزه في أي نقاش حول الشعر الجاهلي. كما أنه مهّد الطريق أمام مقاربات نقدية جديدة تأخذ بعين الاعتبار الظروف السياسية والاجتماعية التي رافقت جمع وتدوين الشعر القديم،
ولا تكتفي بالتعامل معه بوصفه انعكاسا نقيا لروح العصر.
وقد أسهم هذا التحول في ولادة اتجاهات نقدية عربية أكثر عقلانية وصرامة في التعامل مع الموروث الأدبي، بما فيها الاتجاه التاريخي، والنقد البنيوي، والنقد الثقافي.
رغم ما أثاره من جدل واتهامات، يبقى الشعر الجاهلي عملاً استثنائيا في تاريخ الأدب العربي، لأنه أرغم القرّاء على مساءلة ما اعتادوا قبوله، وفتح أمامهم آفاقا جديدة لفهم النصوص القديمة.
لقد بيّن طه حسين، بأسلوبه الواضح وأفكاره الجريئة، أن التراث ليس كتلة صماء، بل بناء تاريخي واجتماعي وثقافي يجب فحصه بعين ناقدة.
ومن هنا، فإن الكتاب لا يزال يحتفظ بقيمته المعرفية، ويُعد مدخلا ضروريا لكل باحث يرغب في دراسة الشعر العربي القديم بموضوعية وتجدد.
وفي الختام، يمكن القول إن طه حسين لم يكن يسعى إلى تقويض التراث، بقدر ما كان ينشد تحريره من طابع القداسة الزائفة.
لقد أراد أن يُخضع الشعر الجاهلي، وغيره من الموروث، لمنهج علمي يميز بين التاريخي والمتخيل، وبين الوثيقة والأسطورة.
وإذا كانت أفكاره قد أزعجت بعض الأصوات التقليدية، فإنها، في المقابل، أسست لنقلة نوعية في مسار النقد العربي الحديث،
وجعلت من التفكير العقلاني أداة مشروعة، بل ضرورية في التعامل مع تراث غني، لكنه معقّد، ويحتاج إلى قراءة متأنية لا تغفل السياقات ولا تسقط في التبجيل، إنه كتاب لا يُقرأ من أجل الإجماع، بل من أجل التفكير.
حسن لمين
كاتب مغربي