
الكتابة الابداعية: مهنة أم هواية أم ضرورة وجودية؟
الكتابة الابداعية، عملية غامضة تجمع بين الفكر والعاطفة، تثير تساؤلات عميقة حول طبيعتها: هل هي مهنة يمكن أن تُدر دخلا وتُشكل مسارا وظيفيا؟ أم مجرد هواية يمارسها المرء في أوقات الفراغ للمتعة؟
أم أنها ضرورة وجودية تتجاوز الاختيار لتصبح جزءا لا يتجزأ من هوية الكاتب؟ الكتابة كمهنة تنطوي على فكرة أنها عمل يُنتج مقابلا ماديا أو يُمارس بغرض تحقيق الاستقرار الاقتصادي.
كُتَّاب مثل ديفيد بالداتشي، الذي تحول من محامٍ إلى كاتب روايات بوليسية، يجسدون هذا البعد. بالداتشي، الذي تحدث في كتاب «لماذا نكتب؟»
لميريدث ماران، يرى الكتابة تحديا يضعه لنفسه ليروي قصصا مشوقة، لكنه أيضا بنى مسيرة مهنية ناجحة أنتجت أكثر من 40 رواية بيعت منها ملايين النسخ. بالنسبة له، الكتابة مهنة تتطلب الانضباط والمثابرة، مثل أي عمل آخر، مع تركيز على السوق والجمهور.
في مقال شهير بعنوان «لماذا أكتب؟» (1946)، يقدم جورج أورويل منظورا مشابها، لكنه أكثر تعقيدا. يعترف من خلاله بأن الكتابة أصبحت مصدر رزقه بعد نجاح «مزرعة الحيوان»،
لكنه يشير إلى أن هذا لم يكن هدفه الأولي. بالنسبة له، الجانب المهني جاء نتيجة لدوافع أعمق، لكن تأثير الكتابة على حياته كان واضحا: لقد منحته صوتا سياسيا وماديا، وحولته من صحافي متجول إلى كاتب مؤثر في القرن العشرين.
هنا، تصبح الكتابة مهنة لأنها تلبي حاجة عملية، لكنها لا تُختصر في ذلك.
الكتابة كهواية
أما الكتابة كهواية، فهي الجانب الذي يركز على المتعة الشخصية، والتعبير الحر دون ضغط المكاسب المادية، أو الالتزامات المهنية. هذا البعد يظهر في تجارب كتاب بدأوا الكتابة كنشاط جانبي قبل أن تتحول إلى شيء أكبر. فرجينيا وولف،
على سبيل المثال، لم تبدأ الكتابة كمهنة بالمعنى التقليدي، بل كوسيلة للتعبير عن أفكارها واستكشاف الوعي البشري. في كتاباتها مثل «غرفة تخص المرء وحده» (1929)،
تتحدث عن الكتابة كمساحة حرية تحتاج إلى وقت واستقلال، ما يوحي بأنها كانت بالنسبة لها هواية فكرية قبل أن تصبح أداة للتأثير الثقافي.
في الثقافة العربية، نجد هذا عند محمود درويش، الذي لم يكتب الشعر كفن فقط، بل كوسيلة لحيازة الوجود، لإعادة صياغة الوطن في المنفى، ولخلق لغة «يسكنها كما يسكن البيت».
كذلك بدر شاكر السيّاب، وهو يكتب في فقره ومرضه، لم يكن شاعرا محترفا، بل كان كائنا تطارده القصائد كما تطارد الذئاب فريستها.
غسان كنفاني هو مثال آخر، لا تُفهم كتابته إلا من خلال كونها ضرورة نضالية داخل جسد منهك. لم يكن يكتب عن فلسطين، بل كتب من داخل جرحها، فكانت اللغة عنده نزفا منظّما.
تيري ماكميلان، الكاتبة الأمريكية المعروفة برواية «في انتظار الزفير»، تقدم منظورا آخر في كتاب ماران. حيث تصف الكتابة كشيء بدأته لنفسها، كوسيلة للتعبير عن تجارب النساء السود، قبل أن تتحول إلى مهنة بفضل نجاحها الجماهيري.
تأثير ذلك على حياتها كان تحويل هواية شخصية إلى صوت جمعي، ما يظهر أن الكتابة كهواية قد تكون البذرة التي تنمو لتصبح شيئا أكثر تعقيدا.
لكن الكتابة كهواية لا تخلو من التحديات، فحتى عندما تُمارس للمتعة، تتطلب وقتا وجهدا قد يتعارض مع الحياة اليومية. ومع ذلك، يبقى هذا البعد جذابا لأنه يحرر الكاتب من قيود السوق أو التوقعات الخارجية، ما يجعلها ملاذا إبداعيا.
الكتابة ضرورة وجودية
الكتابة ضرورة وجودية تتجاوز الاختيار لتصبح جزءا لا يتجزأ من وجود الكاتب، كما لو كانت استجابة غريزية للحياة نفسها.
هذا البعد يتجلى بوضوح في تجارب كتاب مثل إيزابيل الليندي وجيمس فري. الليندي، في حديثها مع ماران، تصف الكتابة كوسيلة لاستعادة ذكرياتها ومواجهة الخسارات الشخصية، مثل وفاة ابنتها.
تقول: «أكتب لأفهم العالم وأعيش مرة أخرى ما فقدته».
بالنسبة لها، الكتابة ليست خيارا، بل حاجة ملحة للشفاء وإعادة تشكيل الواقع. تأثير ذلك على حياتها كان تحويل الألم إلى أعمال أدبية خالدة مثل «بيت الأرواح»، ما جعلها صوتا عالميا.
إيزابيل الليندي
في العالم العربي، ثمة كُتّاب احترفوا الكتابة الصحافية أو الروائية وفق إيقاع السوق، دون أن تمس كتاباتهم أعصاب اللغة. قد يُشار هنا إلى من حولوا الرواية إلى وسيلة استثمارية دون مساس جوهري بالرؤية الإنسانية، وهي كتابات لا يخلو منها أي مشهد ثقافي.
بينما نجيب محفوظ بدأها كهواية، ثم تحولت إلى مهنة، ثم أصبحت ضرورة عقلانية تقارب الوجود، لكنه حتى في أكثر لحظاته تقليدية، ظل يكتب بقلق داخلي. محفوظ هو الكاتب الذي صارع التقاليد من داخلها.
جيمس فري، صاحب «مليون شظية صغيرة»، يذهب إلى أبعد من ذلك، يرى الكتابة نجاة من ماضيه المضطرب، من الإدمان والجريمة.
في حديثه مع ماران، يقول إن الكتابة كانت الطريقة الوحيدة لمواجهة شياطينه الداخلية، حتى لو أثارت جدلا حول صدق سيرته. بالنسبة له، الكتابة ضرورة وجودية لأنها أنقذته من الانهيار، وحولت حياته من فوضى إلى سرد منظم، رغم الانتقادات التي واجهها.
فرجينيا وولف تقدم زاوية أخرى في هذا السياق. في يومياتها، حيث تصف الكتابة باعتبارها حاجة لاستكشاف الوعي والذات، وكأنها لا تستطيع أن تكون كاملة دونها.
تأثير ذلك على حياتها كان مزدوجا: منحتها الكتابة إحساسا بالمعنى، لكنها أيضا كشفت هشاشتها النفسية، ما جعلها مثالا للكتابة كضرورة قد تكون مؤلمة ومُحررة في آن واحد.
رؤى متكاملة
جورج أورويل يقدم رؤية تجمع الأبعاد الثلاثة. في مقاله، يحدد أربعة دوافع للكتابة: الرغبة في الشهرة (مهنية)، المتعة الجمالية (هواية)، تسجيل التاريخ، والدافع السياسي (ضرورة وجودية).
يرى أن هذه الدوافع تتداخل، لكن الأولوية تختلف حسب الكاتب والظروف. بالنسبة له، الكتابة كانت ضرورة لمقاومة الظلم السياسي، لكنها أصبحت أيضا مهنة وهواية استمتع بها.
هذا التكامل يشير إلى أن الكتابة قد لا تُحصر في إطار واحد، بل تتحرك بين هذه الأدوار حسب سياق الكاتب.
أثر الكتابة على حياة الكتاب
تأثير الكتابة على حياة هؤلاء الكتاب، يعكس طبيعتها المتعددة. بالنسبة لبالداتشي، حولته من محامٍ عادي إلى كاتب ثري ومشهور، مما يبرز البعد المهني. فيما فتحت الكتابة لماكميلان نافذة للتعبير عن هويتها كامرأة سوداء، معززة إحساسها بالانتماء والتأثير.
أما الليندي وفري، فقد كانت الكتابة طوق نجاة، حيث أعادت تشكيل حياتيهما من خلال تحويل التجارب الشخصية إلى قصص تتردد عالميا. وبالنسبة لوولف، كانت الكتابة مرآة لروحها، منحتها العمق، لكنها كشفت أيضا عن جروحها.
الكتابة في سياقات مختلفة
في السياق العربي، يمكن أن نرى هذه الأبعاد مجتمعة أيضا. الكاتب الطيب صالح، على سبيل المثال، كتب «موسم الهجرة إلى الشمال» كضرورة للتعبير عن هويته المزدوجة بين السودان والغرب، لكنها أصبحت مهنة أدبية أكسبته شهرة عالمية.
بينما نجيب محفوظ، مثلما أشرنا، بدأ الكتابة كهواية قبل أن تتحول إلى مسيرة مهنية حصدت جائزة نوبل. هذا يظهر أن الكتابة تتكيف مع الظروف الثقافية والشخصية، محتفظة بقدرتها على أن تكون كل هذه الأشياء في وقت واحد.
النتيجة أن الكتابة ليست مهنة فقط، ولا هواية محضة، ولا ضرورة وجودية منفصلة، بل هي مزيج ديناميكي من الثلاثة، يختلف تأثيره حسب الكاتب.
كما تُظهر قناعات أورويل والليندي وفري ووولف، الكتابة قد تبدأ كواحدة من هذه الأدوار ثم تتطور لتشمل الأخرى، أو تظل مزيجا منها جميعا. أثرها على حياة الكتاب يكمن في قدرتها على إعادة تشكيل واقعهم، سواء كمصدر رزق، ملاذ إبداعي، أو صوت للذات.
في النهاية، الكتابة هي ما يصنعها الكاتب: مهنة إذا أراد العيش منها، هواية إذا استمتع بها، وضرورة إذا لم يستطع العيش من دونها.
مروان ياسين الدليمي
كاتب عراقي