
ربيع الثقافة السورية.. مقاه ومنتديات تنهي حالة السبات
ليس مفاجئاً ولا غريباً أن يزدحم الشارع السوري اليوم بمبادراتٍ ثقافية عديدة ومتنوعة، تتضمن تأسيس جمعيات جديدة، وإحياء منتديات وصالونات قديمة، وتنظيم فعاليات ثقافية محلية، يتولّى إدارتها سوريون عاديون لا ينتمون إلى أي جهة رسمية،
ولا يعبّرون عن تيارٍ عام. هم فقط يعبّرون عن أنفسهم، وعن رغبتهم في المشاركة، بعدما شعروا طويلاً بالتهميش والإقصاء خلال الحقبة الماضية، واستُبعدوا من المساهمة في صياغة ثقافتهم الجامعة أو حتى ثقافاتهم المحلية.
ومع خصوصية الواقع السوري الراهن، ومحدودية الأثر الثقافي للجهات الرسمية وشبه الرسمية (بما في ذلك قلّة الأنشطة التابعة لوزارة الثقافة واتحاد الكتّاب العرب) يمكن لمتتبّع المشهد السوري أن يرصد حراكاً ثقافياً متنوعاً وواسعاً في مختلف المدن السورية، تتولّاه جمعيات ومنتديات وصالونات ثقافية، مرخّصة وغير مرخّصة، قديمة وجديدة.
بعض هذه المنتديات واصل نشاطه خلال الحرب ضمن حدود معينة وتحت السقوف المسموح بها، وفي مراحل ضعف السلطة، نُظّمت بعض الأنشطة في منتديات غير مرخّصة، واندرجت ضمن إطار "المسكوت عنه".
الترخيص.. العقبة الأكبر
كانت مسألة الترخيص واحدة من أبرز العقبات التي تواجه المنتديات والجمعيات الثقافية في سورية، التي عرفت تأسيس الجمعيات منذ أواخر القرن التاسع عشر.
وقد ألغى الاحتلال الفرنسي معظمها بعد عام 1925. ولاحقاً، خضعت الجمعيات لقانون رقم 93 لعام 1958، الذي منح مديرية الشؤون الاجتماعية مهمة تنظيم عملها، وعرّفت المادة 54 الجمعية الثقافية بأنها: "كل جمعية يكون الغرض من تكوينها النهوض بالعلوم أو الفنون أو الآداب".
لكن فعلياً، ظلّت التراخيص شبه معطّلة بسبب اعتبارات سياسية وأمنية. ومنذ عام 2018، أُعيد النظر في مرجعية المنتديات الثقافية، وانفصلت قانونياً عن وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل، وأُنيطت التراخيص الثقافية بوزارة الثقافة.
إلا أن هذا التغيير لم يُحدث فرقاً يُذكر؛ فلم تُمنح تراخيص يُعتدّ بها لمنتديات ثقافية معروفة بعده. وغالباً ما بقيت وزارة الثقافة خاضعة للقرار الأمني السائد حينها،
فضلاً عن أنّ الاشتراطات التي تفرضها الوزارة للحصول على ترخيص ما زالت أكثر تعقيداً من تلك التي تفرضها وزارة الشؤون الاجتماعية.
وهذا ما يدفع عديدين من الراغبين في ترخيص منتدياتهم إلى التوجّه نحو وزارة الشؤون الاجتماعية، تحت مسمّى "جمعيات اجتماعية"، تتيح لهم ممارسة أنشطة ثقافية بشكل غير مباشر، بدلاً من اللجوء إلى وزارة الثقافة ذات الشروط الصارمة.
خريطة ثقافية
من أبرز هذه التجمعات الناشئة حديثاً، يظهر تجمّع "كلمة" الثقافي في مدينة سلمية، وقد ضمّ في قائمة مؤسّسيه نخبة من المثقفين، من بينهم الشاعرة إباء الخطيب، التي ترى في التجمع استجابةً للفجوة التي تتركها المؤسسات الرسمية، ووسيلة لدعم المواهب الشابة وتوسيع فضاء الفعل الثقافي في تشكيل الهوية السورية.
وفي طرطوس، تتابع جمعية "وفاق" غير المرخّصة نشاطها الثقافي منذ أكثر من شهرين. وهي جمعية نسوية تسعى إلى الحصول على ترخيص، وتكتب في تعريفها: "نقترب من الكلمة لا لندينها، ولا لنهرب منها، بل لنفهم كيف تشكّلت في وعينا، وكيف يمكن أن نحملها بطريقة مختلفة، أكثر وعياً، وأكثر رحمة بأنفسنا وبالآخر".
تمارس الجمعية نشاطاً أسبوعياً في أحد المقاهي، وتستضيف في كل جلسة أحد المبدعين، مع تنوّع في الحقول الإبداعية: من قصة وشعر، إلى موسيقى وفنون.
وتنطلق في طرطوس أيضاً منتديات غير مرخّصة، مثل: نادي "اقرأ" بإشراف ملاذ الشيخ، نادي "انترادوس" بالتعاون مع رابطة المحاربين القدماء، ملتقى نهر الغمقة، ملتقى البيادر، وملتقى البيارق الثقافي بإدارة زينب نوفل.
في المقابل، توجد ستة نوادٍ مرخّصة في المدينة، من بينها: مركز صافيتا الأدبي، ملتقى مواسم، الملتقى الوطني للثقافة والإعلام، دوحة الأدب، ملتقى بانياس الثقافي، ونادي بانياس.
أما في حلب، فتبدو المدينة الأبرز من حيث نشاط المنتديات الثقافية. من الجمعيات الحديثة، تبرز جمعية "شعريان" التي يرأسها أحمد زياد غنايمي، وتهتم بالشعر العمودي وجماليات اللغة العربية، وتضم شباباً من طلبة الجامعات والخريجين الجدد.
وتبرز فرق ثقافية نشطة، مثل: فريق "أبجد" بإدارة ربيع منصور، "دوّن" بإدارة علي الصاري، "باي ديفولت" بإدارة يمان ناجح، و"سلوان الثقافي".
كما يُعدّ "مقهى حلب الثقافي الأسبوعي"، بإدارة الشاعر محمد بشير دحدوح، من المنتديات البارزة في المدينة. وهناك أيضاً: جمعية المتنبي، دار الرياض للثقافة، جمعية أصدقاء اللغة العربية، بيت القصيد، الجمعية العربية المتحدة للآداب والفنون، وجمعية القيثارة.
في دمشق، تبدو النوادي الثقافية أقل عدداً أو أقل ظهوراً. يبرز منها "النادي الاجتماعي"، المرخّص منذ عام 1960، وقد استضاف مؤخّراً ندوة للمفكر برهان غليون. كما تنشط "بنفسج للثقافة والفنون"، وتسعى للتنسيق مع وزارة الثقافة لتوسيع حضورها.
أما في ريف دمشق، فيبرز "مقهى فيروز الثقافي"، الذي أسّسه الباحث بلال الكسواني في مدينة السيدة زينب، وقد ارتفعت وتيرة نشاطه بعد سقوط النظام، حتى افتتح فرعاً ثانياً له.
ويضم المقهى مكتبة ضخمة تحتوي على نحو ستة آلاف كتاب، بالإضافة إلى لوحات فنية، ويستضيف بانتظام أدباء وفنانين.
بوادر تعافٍ
رغم صعوبة حصر جميع المنتديات الثقافية العاملة اليوم، خصوصاً المستحدثة منها بعد سقوط النظام، نتيجة ضعف التغطية الإعلامية وندرة التمويل، فإن المؤكّد أن كثيراً منها لا يزال في مراحله الأولى، أو في "حالة جنينية".
ومع مجتمعٍ مزّقته الحرب لأكثر من 14 عاماً، يبحث السوريون عن أدوات تعافٍ ثقافية بأنفسهم، كما يبحثون عنها عبر المؤسسات الرسمية وشبه الرسمية.
وإذا كان تأسيس هذه المنتديات والنوادي يُمثّل إحدى إشارات التعافي، وتعبيراً عن رغبة المجتمع في رسم ملامحه الثقافية، فإن اللافت في هذه الظاهرة أن مؤسسيها هم في الغالب من فئة الشباب، الذين اندفعوا إلى المبادرات الذاتية، واستقطبوا جمهوراً شاباً مشابهاً.
في المقابل، تعاني المؤسسات الثقافية الرسمية من شيخوخة في كوادرها وربما من سيطرة تلك الكوادر على مفاصلها.
الأمر يستدعي من الجهات المعنية بالشأن الثقافي أن تولي هذه المبادرات اهتماماً حقيقياً، وأن تساهم في تأصيلها باعتبارها حالة ثقافية تعبّر بعمق عن المكان والهويات النفسية والاجتماعية.