
قصيدة النثر العراقية ما بعد الحرب
قبل أشهر؛ كنّا نجلس في مقهى شعبي، نتسابق أنا وصديقي الشاعر ياسر عامر في الإتيان على عدد كبير من كؤوس الشاي العراقي، ورواد المقهى يتابعون قناة عربية تغطي حرب الإبادة على غزة، برأيك لماذا هفتت جذوة قصيدة النثر؟ يسأل ياسر.
وأُضيف أنا: أين قصيدة النثر اليوم بعد 22 سنة من تغيير نظام صدّام حسين وإسقاطه عبر الاحتلال الأميركي؟
أجساد التبرير
بعد 2003 كان العراقيون يتفقدون أجسادهم كمن يتفقد نفسه؛ علّه مصاب، بعد زلزال أو انفجار أو حادث سير، يستكشفون الحياة بلا صدّام، يستوعبون رويداً عدد الفضائيات التي غَزت بيوتهم والصحف التي ملأت الأرصفة،
وبينما كان الشعراء الكبار يبرّرون كتاباتهم للدكتاتور وحروبه بحوارات صحافية في ذات الصحف الكثيرة، وكيف سال المداد بالتمجيد والاحتفاء خشية على أرواحهم وأهاليهم.
ولم يظهر جيل شعري شاب بعد، أقصد في السنوات التي أعقبت سقوط النظام من 2003 إلى 2005.
هذه السنوات كانت بمثابة إعادة التعرّف على الشِعر والأسماء التي كانت موجودة في العراق وخارجه. حين وصلنا لسنة 2006؛
كان العراق يصطلي بحرب أهلية طائفية والشعراء -الكبار- يدفعون بقصائدهم التي تدعو للعراق الموحّد والجديد، وهذا لا يعني تبرئة كاملة للشعراء، فمنهم من غذّى الطائفية بنصٍ أو مقال رأي أو غيره.
عباءات الآباء
حين تَعرّف العراقيون على فيسبوك، وصاروا يقرأون -شيباً وشباباً- أدباً مترجماً منشوراً (معاصراً) على حيطان صفحات أدبية عربية وعراقية، وامتلأت صفحاتهم بنصوص نثرية وحتى خواطر،
كان الكل يكتب بلا استثناء! مئات من النصوص اليومية لم تجد غربالاً غير تعليقات الأصدقاء ومجاملات النقاد واشتباك الأجناس: والقصد هنا تداخل بعض النصوص مع الخواطر أو القصة القصيرة جداً،
بنفس الوقت أشارت بعض الأسماء الشابة لنفسها -من خلال نصوصها- على أنها أسماء واعدة، ولم تنجرف لضغط النشر (المطالَبة الذاتية غير المحسوسة بأن الكاتب أو الشاعر مُطالب أن يكتب كل يوم على صفحته!).
فترة ازدحمت بالنصوص والشعراء، لأنّ التحول الذي صنعته منصات التواصل الاجتماعي ومنها فيسبوك هو أنها أتاحت للشاعر أن يصف نفسه شاعراً ببساطة عبر صفحته الشخصية،
وهذا ما لم يكن متاحاً للشعراء قبل ابتداع هذه المنصات، خرجت للنور قصائد نثرية غنية بالتجريب، متمردة على القوالب، تتسع لمفاهيم وثيمات أكبر من جغرافيا النثرية العراقية، لكن ما يؤشر عن تلك الفترة أنها أنتجت نصوصاً متفرقة هنا وهناك،
أي بمعنى لم تُقَدم تجربة شعرية متكاملة لشاعر ما -وهذا طبيعي-، لكن غير الطبيعي أن النقاد والمتتبّ
عين حينها لأثر قصيدة النثر العراقية كانوا يخوضون بجدلية تجييل هؤلاء الشعراء الشبان من عدمه. كيف لتجربة شعرية لم يمضِ عليها بضع سنوات أو حتّى بضعة أشهر أن تخضع لمشرط التجييل؟
لماذا نحن مجبولون بهذه السُنة التي سنّها شعراء الحقبة الستينية؟
في دراسة منشورة بمجلة أقلام (دار الشؤون الثقافية العراقية، العدد الرابع 2024)، يقول الأكاديمي حمزة عليوي "لا أعرف كيف يمكن أن نتحدث عمّا يسميه بعضهم بـ(جيل ما بعد التغيير) بعد أقل من سنة من سقوط الدكتاتورية واحتلال البلاد؟".
وهذا رأي سديد، لكن عليوي يتحفّظ على الجيل هذا انقطاعه عن (الشعراء الآباء)، وعدم ارتيادهم المقاهي وتعرفهم إلى بعضهم البعض!
ويستغرب من عدم إصدار بيان تأسيسي حين تتأسس جماعة شعرية شابة! مثلما حصل حين تأسست مليشيا الثقافة وهي مجموعة شعراء شبان من محافظة بابل أصدروا مجموعة شعرية مشتركة تحت مسمى "الشعر في حقول الألغام".
لكن الشِعر هو شعرٌ لا يكترث لبيانات التأسيس ولا يشترط اتصاله بالإرث أو ارتياد كتّابه المقهى، وهذا ما ذهب إليه الناقد عباس عبد جاسم في كتابه "جماليات سلطة الخروج على النموذج" (دار الحوار، 2014) بجزئية [شعراء قصيدة نثر ما بعد 2003] وهنا أقتبس "تشكّلوا بصمت وسط انهيار سلطة النموذج، وتفكّك النظام الأبوي"
أزمِة أم أَزْمَنَة؟
يقول الأكاديمي علي متعب جاسم في دراسته "قصيدة النثر الآن... من بنية التخييل إلى بنية التفكير" عن أَزْمَنَة القصيدة: "لا أريد إثارة تسمية (الشباب) الذي استهلكته الصحافة في ثمانينيات القرن الفائت، لكنني سأفترض ما أبني عليه بعض تصوراتي وهو أن لا زمنية قاطعة في مسألة الإبداع، التزمين يحاصر القصيدة بوصفها رؤية تجاه الأشياء، وكشفاً جدلياً للعالم،
أريد التركيز على فكرة أن الشباب لا يعني عدم اكتمال الأدوات وإنما اختلاف الرؤية. فهل استطاعت القصيدة الشابة أن تفكر برؤية مغايرة؟ هل استعارت القصيدة رؤية لا تمثل كاتبها؟".
ثمة قصائد شابة -وهنا لا أعني التجارب الشابة- فكرّتْ برؤية مختلفة وقدمت معالجة شعرية جديدة تماماً، بل وحتى أخرجت حقبة ما بعد 2003 نصوصاً نثرية برؤى معاصرة ومُجَدّدَة لم يلقَ مترجمها صعوبة في تحويلها إلى أدب مترجم.
إذ إنّ أحد اشتراطات النص الصالح لأن يُترجم لغير العربية هو ما يقدمه من رؤية إبداعية تلامس القارئ غير العربي، وبالحديث عن تجارب الشِعر المترجم؛ من المؤسف أن ثمة أسماء شابة قد بدأت في مستوى شعري مذهل بنصوصها الأولى وعتبات تجاربهم الفتية،
لكنّ هذه الشعرية تضاءلت لمجرد طموحهم لأن تُترجم هذه القصائد، لذلك عمدوا لتراكيب بسيطة وبناء فقير للنَّص وثيمات متواضعة. الترجمة هي من تبحث عن النَّص المتكامل وتبدي كامل امتنانها له، لا النص يبحث عن الترجمة.
قصائد مرّقطة
في أيام معارك تحرير مدن العراق من سيطرة داعش عام 2016، كان (التايم لاين) في فيسبوك أشبه ما يكون بمجاميع شعرية غير ورقية.
شاعرٌ يكتب عن الرصاص وشاعر يتغزل بالشبان وعقيدتهم، شاعر آخر يرى المعارك بأنها محرقة، وشاعر يضع صورته مرتدياً زياً عسكرياً ومرفقاً نصاً عمودياً تعبوياً.
كنا نقرأ بلا ملل، حتى كادت صور هذه النصوص أن تتزاحم مع صور التحرير التي تأتي عبر المراسلين الحربيين، لم يؤرشف هذا الجهد والاشتغال الكتابي غير فيسبوك،
صحيح أن كل النصوص كانت (خاكية) وإيقاعها الداخلي مستنبطٌ من أصوات الدبابات، وموسيقاها الداخلية كانت مكتظة بالأزيز، لكن هذا لا يمنع أن نصوصاً جميلة كُتبت حتّى ولو كانت عن الحرب!
في تلك الفترة كان الشعراء الكبار، وأكثر منهم الشباب، يتحركون مع القطعات العسكرية -مجازاً- مثلما يستتر الجنود خلف ناقلات الجند وهي تتحرك للأمام، قصائد عن تحرير بيجي، تليها قصائد ترفع من معنويات المحرّرين للفلوجة، بعدها قصائد تتغنى بتحرير محافظة صلاح الدين وهكذا...
كان الشِعرُ وشعراؤه بلياقة عالية، والنتاج كثير على فيسبوك وقليل منه نوعي، وهذا طبيعي سيّما أن الشعور والحماسة غالبة، وما يمر به الناس في المدن المحرّرة وغير المحرّرة يستدعي من الشعراء أن يكتبوا - وهو ما يرونه نوعاً من أنواع المساندة والدعم -،
لكن ما أن أُعلن عن انتهاء العمليات بتحرير مدينة الموصل في يوليو/ تموز 2017 حتى بدأ الخط البياني لهذه القصائد بالنزول تدريجياً.
ينطبق على الشاعر العراقي اليوم ما لا ينطبق على غيره، بمعنى أن غياب الضغوط عنه؛ الضاغط الفني، الضاغط الجماهيري، والضاغط الإلكتروني، يقلّل من كمية ما تنتجه الشعرية العراقية اليوم،
فلو تتبعنا بالأرقام مسار الشعر بعد 2003 نجد أن ربيعه في الأحداث غير الطبيعية التي مرّ بها العراق؛ الاحتلال الأميركي 2003، ومقاومة الاحتلال 2004 و 2005، والحرب الطائفية الأهلية 2006 و 2007، ومفخّخات القاعدة، وفوز العراق بكأس آسيا 2007،
وسقوط الموصل ومدن أخرى على يد تنظيم داعش 2014، وعمليات تحرير العراق 2016، وثورة وانتفاضة تشرين 2019.. إلخ،
الهدوء النسبي لا يدفع العراقي إلى أن يكتب الشّعر، لا شعرية في الحياة العادية!. يقول الفيلسوف الفرنسي هنري برجسون [كلّما زاد انشغالنا بالحياة قلّ ميلنا إلى النظر والتأمل].
* الوليد خالد
شاعر وكاتب من العراق