
من النفط إلى البيانات.. الجيولوجيا تتحول إلى ثروة ثالثة للسعودية
تشهد السعودية تحولاً نوعياً في مجال إدارة بياناتها الجيولوجية عبر مشروع ضخم يستهدف تصوير باطن الأرض بتقنيات ثلاثية الأبعاد، وإعداد خريطة زلزالية شاملة للمملكة.
المبادرة تأتي في إطار توجه واسع لتحويل البيانات إلى أداة استراتيجية تدعم الاستثمارات وتحد من المخاطر الطبيعية.
وتمثل الخطوة جزءاً من مسار متكامل يتماشى مع رؤية 2030 التي تراهن على تنويع الاقتصاد وتعزيز قطاع التعدين والبنية التحتية.
مشروع كبير
المشروع الذي كشف عنه رئيس هيئة المساحة الجيولوجية السعودية عبدالله الشمراني، في حوار مع صحيفة "الاقتصادية"، يتيح قاعدة معلومات مفتوحة لجميع الجهات والمستثمرين والباحثين،
بما يضمن توظيفها في مجالات حيوية تشمل التعدين، والأمن المائي، والتخطيط العمراني، والوقاية من الكوارث.
ويعكس المشروع إدراك السعودية لأهمية التحول الرقمي في قطاع الموارد الطبيعية، بعد عقود كانت فيها البيانات الجيولوجية مشتتة أو محدودة الاستخدام،
حيث ستتحول هذه البيانات إلى مرجع وطني ودولي، عبر منصة موحدة ترتبط بالذكاء الاصطناعي وتقنيات المعالجة الحديثة.
ويتضمن تصويراً ثلاثي الأبعاد لطبقات الأرض وتحديد مواقع المعادن والمخاطر والتصدعات والطاقة الحرارية.
كما يجري إعداد خريطة زلزالية تغطي مختلف مناطق المملكة، بهدف صياغة "كود بناء" خاص بكل منطقة يتناسب مع طبيعتها الجيولوجية. وتخطط السلطات لإنهاء المشروع بحلول عام 2030 بعد استكمال مراحل جمع البيانات والتحليل.
من يدير المشروع؟
تُدار المبادرة عبر هيئة المساحة الجيولوجية السعودية، التي أكدت أن البيانات تُعالج وتُربط باستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي، ما يتيح الاستفادة منها في التنمية وتقليل آثار المخاطر.
وتشمل القاعدة الوطنية جميع المعطيات المتعلقة بالصخور، والطبقات، والمعادن، والمياه الجوفية، والمخاطر الجيولوجية.
المشروع قطع شوطاً كبيراً في المسح الجيوفيزيائي للدرع العربي، حيث أنجز 92% من الأعمال، إلى جانب اكتمال 100% من البيانات الجيوكيميائية، التي تشمل أكثر من 88 ألف عينة محللة وفق 76 عنصراً،
فيما بلغت نسبة توافر البيانات الجيوفيزيائية والجيوتقنية عبر المنصة الوطنية نحو 90%.
وفي جانب الشفافية، أتاحت السعودية جميع البيانات مجاناً للباحثين والمستثمرين المحليين والدوليين، فالمنصة شهدت نمواً لافتاً في عدد زوارها، إذ ارتفع من 3,000 زائر عام 2021 إلى أكثر من 130,000 حالياً،
ما يعكس الطلب المتزايد على المعلومات الجيولوجية الدقيقة.
أما الجانب الاقتصادي للمشروع فيظهر في إحصاءات المواقع المكتشفة، إذ حددت نحو 5,650 موقعاً جيولوجياً تقدر قيمتها بأكثر من 9.4 تريليونات ريال سعودي (2.5 تريليون دولار)،
وهذه المواقع تضم أكثر من 60 معدناً استراتيجياً، وتشكل دعامة أساسية لخطط المملكة في أن تصبح مركزاً عالمياً للتعدين.
تصنيفات دولية
وتشير التصنيفات العالمية إلى أن السعودية باتت تحتل المرتبة الثالثة في قواعد البيانات الجيولوجية، بعد أن كانت متأخرة في السنوات الماضية.
كما ارتفع ترتيبها في الاستثمار التعديني من المرتبة 104 إلى 23، بفضل التشريعات الحديثة وتوفر المعلومات.
على صعيد التعاون الإقليمي ترتبط السعودية بمشاريع مشتركة مع الأردن ومصر والسودان لتبادل وربط البيانات الجيولوجية، فالمبادرة تهدف إلى تعزيز التكامل الإقليمي في إدارة الموارد الطبيعية، وتسهيل الاستثمارات العابرة للحدود.
أما على المستوى الدولي فتشارك المملكة في تجمع يضم 36 دولة، مع إطلاق مركز تميز وتنظيم مؤتمرات عالمية لتبادل الخبرات والبيانات الرقمية، كان آخرها عامي 2024 و2025.
ثروة تتصاعد أهميتها
تقول المحللة الاقتصادية حنين ياسين ، إن الثروات في السعودية لا تقتصر على النفط والغاز أو السياحة والتقنية، بل تعد المعلومات الجيولوجية ثروة ثالثة تتصاعد أهميتها.
وترى أن ما تنجزه هيئة المساحة الجيولوجية لا يقتصر على الخرائط أو مواقع المعادن، بل بناء قاعدة بيانات متكاملة تُوظف فيها تقنيات الذكاء الاصطناعي، مؤكدة أن رؤية 2030 وضعت التعدين ركناً ثالثاً للاقتصاد الوطني،
وهذا يستند إلى قاعدة معرفية صلبة توفرها هذه البيانات.
وتشير إلى أن الفوائد لا تقتصر على التعدين فقط، بل تشمل إعداد الأكواد الزلزالية، وتحديد مواقع الانهيارات، والحد من خسائر السيول، وتحسين التخطيط العمراني، وخفض تكاليف البناء، وإدارة المياه الجوفية.
وأضافت: "المعلومة الجيولوجية اليوم استثمار بحد ذاته، ويجب التعامل معها كثروة طبيعية تتطلب الحماية والتحديث والربط بين الجهات"،
مؤكدة أن ما يميز التجربة السعودية "أن هذه البيانات متاحة مجاناً وبصورة مفتوحة، وهو قرار استراتيجي يعزز الشفافية ويجعل المملكة بيئة جاذبة لرؤوس أموال نوعية".
وتابعت: "ثروة السعودية المقبلة لا تأتي فقط من جوف الأرض، بل من القدرة على قراءته وتحويله إلى فرص اقتصادية ملموسة".
تقليل مخاطر وأكواد
وفي المجال المدني تسهم البيانات في تقليل المخاطر المرتبطة بالبنية التحتية، فالهيئة أكدت أن مسح الأودية داخل النطاق العمراني مكن من وضع خطط تقلل من مخاطر السيول، مستشهدة بما حدث في جدة،
حيث أُعلن خفض أضرار الأمطار بنسبة 90% بعد الاستفادة من الخرائط الجيولوجية.
وتشمل الخطة إعداد كود بناء خاص بكل منطقة، ما يضمن توافق المشاريع الإنشائية مع طبيعة الأرض، سواء كانت جبلية أو ساحلية أو صحراوية،
وهذه الإجراءات ضمن هدف أوسع يتمثل في رفع مستوى الأمان العمراني والتقليل من الخسائر المحتملة في حال وقوع كوارث طبيعية.
المشروع لا يقتصر على التعدين والبنية التحتية، بل يمتد ليشمل إدارة المياه الجوفية، إذ تسهم الخرائط في تحديد الأحواض المائية وضمان استدامة استخدامها.
كما يعزز الأمن الغذائي عبر دعم مشاريع الزراعة في المناطق الصحراوية، من خلال توفير بيانات دقيقة عن مصادر المياه.
وفي الجانب الصناعي يُتوقع أن توفر البيانات فرصاً للاستثمار في صناعات جديدة مثل العناصر النادرة اللازمة للتقنيات المتقدمة، والليثيوم المستخدم في البطاريات، إضافة إلى النحاس والذهب والفضة.
وتؤكد وزارة الصناعة والثروة المعدنية في المملكة أن المشروع يعزز مستهدفات الاستراتيجية الوطنية للتعدين، التي تهدف إلى رفع مساهمة القطاع في الناتج المحلي إلى 240 مليار ريال سعودي (64 مليار دولار) بحلول 2030.
وبينما تتواصل أعمال المشروع على مراحل، تشير الجهات الرسمية إلى أن اكتماله بحلول 2030 سيضع السعودية في موقع ريادي عالمي بمجال إدارة البيانات الجيولوجية.