
أياد عُمانية تجهد لحماية اللّبان: "الذهب الأبيض" في منطقة ظفار
في منطقة ظفار العُمانية، يشكّل اللّبان أو "الذهب الأبيض" كما يصفه سكان المنطقة، شرياناً للتجارة منذ قرون، ويحرص الأهالي اليوم على حمايته وصون وسائل حصاده وتطوير طرق تصنيعه لاستخدامه في صناعة العطور الفاخرة ومنتجات العناية.
تحت ظلّ شجرة في وادي دوكة، أكبر محمية لأشجار اللّبان في العالم بحسب سلطنة عُمان، يروي السبعيني عبد الله محمد علي جداد، الذي وُلد وعاش في الوادي، لوكالة فرانس برس: "اللّبان بالنسبة لنا أغلى من الذهب، هو كنز".
ويُكمل قائلاً: "كنا نعيش من تجارة اللّبان، نحصده ونذهب به إلى صلالة لمقايضته بمواد غذائية وملابس وسلع مختلفة".
اليوم، تتولى شركة متخصصة إدارة المحمية وحصاد الأشجار وبيع اللبان وتطوير منتجاته، مستندة إلى خبرات عبد الله وأبنائه وأهالي الوادي الذين يمارسون هذه الحرفة جيلاً بعد جيل.
ويمتدّ وادي دوكة، المُدرج منذ عام 2000 ضمن مواقع التراث العالمي لـ "يونسكو"، على مساحة تفوق 14 كيلومتراً مربعاً، تنتشر فيها نحو خمسة آلاف شجرة بين مثمرة وغير مثمرة.
ويُعدّ اللّبان، وهو راتنج عطري يُستخرج من شجرة "بوسويليا"، من أثمن كنوز الطبيعة التي اشتهرت بها ظفار، وهي من المناطق القليلة في العالم التي تنمو فيها تلك الأشجار.
ويوفّر موسم الخريف المميّز لجنوب السلطنة، بين نهاية يونيو/حزيران وأواخر سبتمبر/أيلول، مناخاً مثالياً لنمو الشجرة بفضل الرياح الموسمية المحمّلة بالرطوبة.
يعادل النفط
يمتاز اللّبان برائحة فريدة وفوائد صحية، واستُخدم عبر التاريخ في البخور والطب التقليدي وحتى الطقوس الدينية. ويُستخرج منه اليوم زيت يدخل في صناعة العطور العالمية ومستحضرات العناية بالبشرة.
منذ الألفية الثالثة قبل الميلاد، انطلقت تجارة اللّبان من ظفار عبر طرق القوافل البحرية والبرية نحو حضارات بلاد الرافدين ووادي السند ومصر الفرعونية، وصولاً إلى الإغريق والرومان والصين.
وعلى مسافة نحو 40 كيلومتراً شرق ساحل صلالة، يقع موقع خور روري الأثري، حيث كان ميناء سمهرم المطلّ على المحيط الهندي بوابة اللّبان إلى العالم القديم. ويؤكد مدير الموقع أحمد المرشدي لفرانس برس أنّ "اللّبان كان يعادل تقريباً النفط حالياً".
وأدرجت "يونسكو" أربعة مواقع في محافظة ظفار تحت اسم "أرض اللّبان" على قائمة التراث العالمي، وهي: وادي دوكة، خور روري (ميناء سمهرم)، مدينة البليد،
ومدينة شصر (أوبار). ولا يزال اللّبان حاضراً في حياة أهالي المنطقة كمورد اقتصادي وعنصر من هويتهم وذاكرتهم الجماعية.
ويشرح عبد الله جداد، بينما يجمع حبات اللّبان اليابسة من إحدى أشجار وادي دوكة، أنّ النوع المزروع هنا هو النجدي، أحد الأصناف الأربعة الرئيسية إلى جانب الحوجري والشزري والشعبي.
بعد جمعه، يُنقّى اللّبان من رقائق الخشب والرمال والشوائب، ويُباع في الأسواق حبات عطرية صلبة بأحجام وألوان متباينة، أو يُقطّر لاستخلاص الزيوت العطرية والمستحضرات، كما في منتجات محمية وادي دوكة.
وتتحدد الجودة وفق النوع والنقاء، إذ يمتاز اللّبان الأجود والأندر بلون مائل إلى الأخضر الفاتح.
ويُستخدم النوعان النجدي والحوجري لأغراض علاجية، وفق ما يوضح فيصل حسين بن عسكر، أحد أبناء مؤسس محل "بن عسكر" العريق لتجارة اللّبان منذ خمسينيات القرن الماضي.
ويضيف أنّ "كلما يكون اللبان أنظف وأنقى يكون صالحاً لشربه علاجا، فيما يُستخدم الباقي بخورا".
ويشير بن عسكر إلى أنّ مصانع عدّة في محافظة ظفار تستخرج من اللّبان مواد تجميل تنتشر في الأسواق المحلية.
شجرة اللّبان سريعة الغضب
لا تحتاج شجرة اللّبان إلى الكثير من الماء، لكن حصادها، الذي يتم خارج موسم الخريف، يُعدّ عملية دقيقة توارثتها الأجيال. إذ يُشقّ لحاء الشجرة لتفرز عصارة عطرية تتصلّب خلال أيام.
ويشرح مسلّم بن سعيد جداد، أحد أبناء الوادي البالغ 28 عاماً: "نضرب الشجرة في أماكن محددة وقليلة، نحو خمس ضربات فقط". ويلفت إلى أنّ "شقّ شجرة اللبان ليس متاحاً للجميع... فهي قد تموت أحياناً".
كما تؤكد مسؤولة في متحف "أرض اللّبان" داخل متنزّه البليد الأثري في صلالة أنّ "شجرة اللّبان سريعة الغضب".
في عام 2022، أبرمت دار العطور العالمية "أمواج" العُمانية شراكة مع وزارة التراث والسياحة لحماية موقع وادي دوكة وتطويره وتوفير فرص عمل للمجتمع المحلي.
وأطلقت الشركة خطة استدامة تقضي بحصر الحصاد على نحو 250 شجرة فقط من بين ألف شجرة مثمرة في كل موسم، إلى جانب جهود لإنقاذ الأشجار من مواقع أخرى مهدّدة في ظفار.
ويشير المشرف على المحمية محمد فرج إسطنبولي إلى أنّ "مشاريع حيوية كشقّ الطرق تهدد أماكن توجد فيها أشجار اللبان... فنقوم بنقلها إلى المحمية لإعادة استزراعها. أنقذنا نحو 600 شجرة حتى الآن".
وتسعى "أمواج"، التي تأسست في سلطنة عُمان عام 1983 ووصلت عطورها إلى أفخم المتاجر العالمية، إلى تحويل وادي دوكة إلى مركز عالمي للّبان العطري، وتعمل مع أبرز مبتكري العطور مثل الفرنسي بيار نيغرين.
ويضيف إسطنبولي أنّ مركزاً لتقطير زيت اللبان سيُنشأ داخل المحمية بهدف "الاستغناء عن التقطير الفرنسي".
كما طوّر القائمون على المحمية مبادرات لدعم الأشجار المهدّدة بالانقراض، فزُوّدت كل شجرة برمز يُمكّن من متابعتها باستمرار من قِبل فريق من المختصين.
وبات بإمكان أي شخص حول العالم اختيار شجرة عبر الموقع الرسمي لوادي دوكة، ودفع مبلغ سنوي لرعايتها، ثم الحصول على منتجات من حصادها هديّةً في نهاية الموسم.
(فرانس برس)