عن التوظيف الطائفي لمصطلح «الصهاينة العرب»
المفهوم الشائع عن الصهيونية أنها حركة يهودية كانت وراء تأسيس دولة الاحتلال الإسرائيلي، وبالتالي فالصهيونية حركة يهودية الديانة. وهذا المفهوم العام يتناقض مع الحقيقة التاريخية الثابتة،
وهي أن الصهيونية نشأت بداية في أوساط مسيحية بروتستانتية في بريطانيا، وأنها ارتبطت بالمسيحية البروتستانتية، قبل أن تمر بمرحلة «الصهيونية العلمانية»، ليتلقفها فيما بعد «اليهود الصهانية» الذين استمروا على صبغتها العلمانية،
لأن أغلب مؤسسي «الصهيونية اليهودية» كانوا يهوداً علمانيين، لتتحول الصهيونية إلى حركة منظمة، هدفها إقامة «وطن قومي لليهودي»، الأمر الذي بلغت معه الصهيونية آخر مراحل تطورها المفاهيمي،
وترتبط إلى اليوم بدولة الاحتلال الإسرائيلي، وتصبح «صهيونية يهودية»، إجمالاً، مع استمرار المعنى الأوسع للصهيونية، وهو معنى عابر للأديان والقوميات، تأتي إسرائيل واليهودية في القلب من بنائه الدلالي.
لكن ماذا عن مصطلح «الصهاينة العرب»؟ ماذا عن توظيفاته السياسية المختلفة؟ ومن هم هؤلاء الذين يطلق عليهم هذا المصطلح؟
بداية ينبغي تقرير حقيقة وجود عدد من الكتاب والصحافيين والفنانين العرب الذين تبنوا مواقف سلبية، ضد حركات مقاومة الاحتلال الإسرائيلي، وإيجابية نوعاً ما، مع الاحتلال،
وهؤلاء يمكن أن يطلق عليهم «الصهاينة العرب»، وهو مصطلح لم يتكرس بعد بصيغة أكاديمية، وتعتريه الكثير من التجاذبات والاتهام والاتهام المضاد والتوظيف السياسي، دون إغفال وجود أعداد متزايدة، تقف ضد المقاومة الفلسطينية، ولا تتورع عن إبداء تأييدها لإسرائيل، وهي أصوات يمكن أن يقال إنها تظل معزولة رغم محاولات تحويلها إلى ظاهرة، لخدمة أغراض مختلفة.
وفي ذلك، يمكن أن نلحظ عدة عوامل أدت إلى تبني البعض سرديات الحركة الصهيونية، ويأتي في مقدمة هذه العوامل الجهود الإسرائيلية المكثفة لاختراق المجتمعات العربية فكرياً وشعورياً وسياسياً، والتسويق لإمكانية إقامة شرق أوسط جديد مزدهر، يتآخى فيه العرب والإسرائيليون،
أو المسلمون واليهود، مع جهود مكثفة لشيطنة حركات المقاومة الفلسطينية، وربطها بالإرهاب، وجهود موازية لتبييض صفحة الاحتلال، وإبراز صورة مزيفة عن إسرائيل، الدولة الديمقراطية المسالمة المنتمية للعالم الحر، والراعية لحقوق الإنسان.
كما لعب الإعلام الإسرائيلي الناطق بالعربية دوراً مهماً في إحداث بعض الاختراق في البنية الذهنية والنفسية والسياسية العربية، وذلك من خلال محاولات مستمرة لتكريس الرواية الإسرائيلية للصراع، لدى قطاعات شعبية ورسمية عربية، مع التركيز على أهمية وجود إسرائيل في المنطقة من جهة، وادعاء استحالة هزيمتها من جهة أخرى،
وبالتالي فإن الطريق الأسلم في هذه الحال ـ وفق تلك الرواية ـ هو التطبيع مع الاحتلال، والاستفادة من الإمكانات الكبيرة لدولته في المجالات التكنولوجية والاقتصادية والعلمية والعسكرية والأمنية، وغير تلك من الأفكار التي كانت تطرح على استحياء، قبل أن تجد لها منابر إعلامية كثيرة تروج لها،
مع عدم إغفال دور وسائل التواصل الاجتماعي التي استطاعت إسرائيل توظيفها، لتكريس سردياتها عن الصراع.
ومن هنا ظهرت بعض الأطروحات، من مثل: «فلسطين ليست قضيتي»، و«القدس ليست مقدسة»، و«المسجد الأقصى ليس في فلسطين»، وصولاً إلى نسف قصة الإسراء المذكورة في القرآن، والادعاء بأنها مفبركة من أجل التبرير لـ«الاحتلال العربي لفلسطين، التي حررها اليهود»،
إضافة إلى سرديات «الإرهاب الفلسطيني»، وغير تلك من الأطروحات التي أصبح بعض الكتاب يتبناها علناً، بعد أن كانت تطرح في المجالس الخاصة، وعلى استحياء.
ومع تقرير حقيقة وجود أفراد عرب لا يشكلون ظاهرة كلية يتبنون السردية الإسرائيلية، فإنه يجب تقرير حقيقة أخرى، وهي أن الصراع الطائفي في المنطقة العربية أدى إلى تسعير حرب المصطلحات، داخل تلك المنطقة،
وهو الصراع الذي بلغ ذروته، مع التدخلات الإيرانية في شؤون دولها، الأمر الذي فاقم حرب المصطلحات، مع محاولات توظيفها، لأغراض طائفية، لم تعد لها علاقة بسرديات الصراع العربي الإسرائيلي، قدر ما لها علاقة بسرديات الصراع العربي الإيراني.
وفي خضم الصراع الطائفي تحاول الآلة الدعائية الإيرانية وصم كل من يقف مع اليمن والعراق وسوريا ولبنان ضد تدخلات إيران بأنه «صهيوني عربي»، في انحراف كبير عن المفهوم الأساس لهذا المصطلح الذي ينصرف إلى أولئك الذين يقفون مع إسرائيل ضد المقاومة الفلسطينية،
وليس من يقف ضد إيران، مع الشعوب العربية التي مزقتها الحروب الطائفية التي تشنها طهران، بواسطة ميليشياتها، ضد شعوب سوريا والعراق ولبنان واليمن.
إن محاولات الدعاية الإيرانية تعميم أصوات النشاز هذه لا تعكس رغبة في مواجهة تلك الأصوات، قدر ما تعكس محاولات مضطردة – وبشكل غير مباشر – لوصم العرب بهذه الوصمة، لأغراض في مقدمتها تعميم السرديات الإيرانية، حول فلسطين والمقاومة والممانعة، ومواجهة قوى الاستكبار، ونصرة المستضعفين،
وغيرها من العناوين التي دأبت إيران ووكلاؤها في المنطقة على تكريسها، خدمة للتمدد الإقليمي الإيراني، تحت غطاء فلسطين والمقاومة.
وتتجلى حقيقة التلاعب الإعلامي بمصطلح «الصهاينة العرب»، وجعله يصم كل من يواجه التمدد الإيراني، يتجلى التلاعب في تلك «الانتقائية» التي يتعاطى بها هذا الإعلام مع المصطلح، من خلال توجيه تهمة «التصهين»، وفقاً للمعايير التي تخدم توجهات طهران.
وقد غض هذا الإعلام الطرف عن ممارسات يمكن أن تدرج أصحابها ضمن «الصهاينة العرب»، لا لشيء، إلا لأن أصحاب تلك الممارسات هم خصوم سياسيون لخصوم طهران، الأمر الذي يجعل «الممانعين» يغضون الطرف، وهو ما يؤكد أن الإعلام الإيراني يتعامل مع مصطلح «الصهاينة العرب» بانتقائية مشوبة بتوجهات طائفية،
وأن هذا المصطلح – في التوظيف الإيراني – ينصرف إلى خصوم طهران في المقام الأول، حتى وإن كان هؤلاء الخصوم هم الخصوم التقليديون لإسرائيل، جرياً على منوال الإيرانيين في توظيف كل ما يمكن توظيفه، من أجل خدمة مصالحهم وسياساتهم التوسعية في البلدان العربية.