تسليط الضوء على الاستثناء باعتباره الأصل!!!
شهد المشهد الإعلامي العربي في السنوات الأخيرة تزايدًا ملحوظًا في إنتاج أعمال درامية وإعلامية تفتقر في كثير من الأحيان إلى البناء القيمي والمعنى العميق.
فبدلًا من أن تكرس هذه الأعمال قيم الفضيلة والأخلاق، نراها تستهدف فئة الشباب والأسرة بصورة سلبية، عبر إبراز ممارسات اجتماعية هامشية وكأنها تمثل القاعدة العامة.
ويظهر ذلك بوضوح في العديد من المسلسلات التي تتناول أحداثًا من التاريخ الاجتماعي العربي، لكنها تعرضها في إطار يغلب عليه التركيز على الصراعات، والانحرافات، والمظاهر الشاذة، تحت شعار "الرؤية الفنية" أو "التصوير الواقعي".
وعلى النقيض، تقدّم الدراما التركية نموذجًا مغايرًا عند تناول الحقب التاريخية؛ فهي تركز في سردها على إبراز تماسك المجتمع، وقوة القيم الأخلاقية، ووحدة الهوية، بما يعكس صورة أمة ذات رصيد حضاري عريق.
هذه المقارنة تثير تساؤلًا جوهريًا: لماذا يصرّ الخطاب الإعلامي العربي على تصوير عناصر مثل العنف، وشرب الخمر، والثأر، والانحلال الأخلاقي على أنها مكون أساسي في نسيج المجتمع، بينما هي في الحقيقة استثناءات محدودة وليست القاعدة العامة؟
الإشكالية لا تكمن في مدى دقة الأحداث أو صدقيتها التاريخية بقدر ما تكمن في الرسالة الموجهة إلى الجمهور. فالإعلام لا ينقل الماضي فقط، بل يسهم في تشكيل الحاضر وبناء الوعي الجمعي للمستقبل.
ومن ثمّ، فإن تكريس صورة مشوّهة لمجتمعنا عبر تسليط الضوء على الاستثناء باعتباره الأصل، لا يؤسس لوعي حضاري سليم، بل يرسخ صورًا ذهنية سلبية تتعارض مع أهداف النهضة الثقافية والفكرية التي يحتاجها واقعنا العربي اليوم.
ومختصر الامر إن بناء برمجة المجتمع لدينا يرتكز على أربعة أعمدة رئيسية تُعد بمثابة القلاع التي تحصن القيم والأخلاق، وهي: الجوامع، والمدارس، والإعلام الموجّه، ومواقع التواصل الاجتماعي التي تعمل كفضاء حر للتفاعل والتبادل الفكري.
في حال إخفاق هذه العناصر الأربع في أداء دورها التربوي والثقافي، يصبح الاستثناء والشذوذ والانحرافات أمورًا مألوفة تُعامل كأمرٍ طبيعي لا يخجل المجتمع منها، ممهدة بذلك الطريق إلى تفكك الأسرة وتصدع النسيج المجتمعي.
فالجوامع تشكل الحاضنة الروحية التي تنهض بالقيم الدينية والأخلاقية، بينما تمثل المدارس البيئة التعليمية الرسمية التي تُغرس المبادئ والقيم الفاضلة والنظام والتفكير والمنهج المعرفي في النفوس.
أما الإعلام الموجه، فله دور محوري في توجيه الرأي العام وتعزيز الوعي الجمعي وتنظيمه وترسيخ قيم التعايش والحرية، في حين تعد مواقع التواصل الحديثة منصة حوارية ينبغي أن تكون مسرحًا للحوار العقلاني والحرية المنضبطة التي تصون القيم ولا تفرّط بها.
ولذلك، فإن الأسرة والمجتمع بحاجة ماسة إلى هذه الركائز الأربع، التي من دونها لا تتحقق التنمية الحقيقية اليوم ، ولا يستمر البناء الثقافي والاجتماعي الصحّي، مما يهدد استقرار المجتمع العربي ويعرضه للانهيار التدريجي.
وإن تعزيز هذه القلاع يتطلب استراتيجيات واضحة ومنهجية متكاملة لضمان ترسيخ الأخلاق والقيم الأصيلة لدى الأفراد وداخل المحيط الاجتماعي العربي بأسره.