
كذبة الاستقلال واستغفال الشعوب: كيف تحولت الوحدة إلى تشرذم؟
مقدمة
يحتفل العرب سنويًا بأعياد الاستقلال، يرفعون الأعلام، ويرددون الشعارات، ويسترجعون ذكريات التحرر من الاستعمار، لكن خلف هذه الاحتفالات تكمن حقيقة مريرة:
لم يكن الاستقلال، كما صُوِّر لهم، نهايةً للهيمنة الأجنبية، بل مجرد تغيير في أدوات السيطرة.
كان الاستعمار مباشرًا، فأصبح غير مباشر، وكانت الأمة العربية موحدةً جغرافيًا رغم الاحتلال، لكنها تفككت بعد "التحرر". فهل كان الاستقلال كذبةً كبرى؟
الاستقلال الذي زرع الانقسام
قبل الاستقلال، كانت معظم الدول العربية خاضعة للاستعمار الأوروبي، لكنها رغم ذلك كانت أكثر ترابطًا، دون حدود مشددة بين الدول، وكان للعربي أن يصول ويجول في معظم أرجاء العالم العربي دون الحاجة لجواز سفر أو تأشيرة.
لم يكن هناك "مواطن مصري" أو "مواطن سوري" أو "مواطن جزائري" بالمفهوم الضيق الذي نعرفه اليوم، بل كان العربي يتحرك بحرية من أقصى المغرب إلى الخليج.
أما بعد الاستقلال، فتم تقسيم العالم العربي إلى كيانات منفصلة، كل دولة تفرض سيادتها المطلقة وتضع الحواجز أمام "أشقائها"، بينما تسمح للأجانب بالدخول بحرية أكبر.
أصبح العربي يحتاج إلى تأشيرة لزيارة بلد عربي آخر، في حين أن الأوروبي أو الأمريكي قد يحصل على تأشيرة بسهولة أو حتى يدخل دونها في بعض الدول العربية.
أنظمة ما بعد الاستقلال: الاستبداد والاستغلال
لم يكن الاستعمار بحاجة إلى البقاء بجيوشه بعد أن زرع أنظمةً تحافظ على مصالحه. جاءت الحكومات الوطنية بوعود التحرر والتنمية، لكنها سرعان ما تحولت إلى أنظمة استبدادية تخدم نفسها، لا شعوبها.
هذه الأنظمة لم تعمل على توحيد الشعوب، بل على تفريقها، وبدلًا من تشكيل تحالفات قوية، غرقت الدول العربية في النزاعات، وأصبحت الحدود مناطق نزاع بدلًا من أن تكون جسور تواصل.
والأسوأ أن المواطن العربي لم يعد قادرًا على دخول دول عربية أخرى دون تأشيرات معقدة، بينما يجد أبواب الغرب مفتوحة أمامه.
المفارقة: كيف استقبلنا الغرب ورفضنا بعضنا؟
اليوم، ملايين العرب هاجروا إلى أوروبا وأمريكا الشمالية بحثًا عن الأمن والكرامة، بينما أُغلقت في وجوههم أبواب الدول العربية.
السوري، العراقي، اليمني، الليبي، وحتى الفلسطيني، يجد صعوبةً في دخول العديد من الدول العربية، بينما يحصل بسهولة على لجوء في دول غربية لا تربطه بها أي روابط ثقافية أو دينية.
هذا التناقض يكشف زيف الادعاءات القومية والوحدوية، ويؤكد أن العالم العربي، رغم خطابات الوحدة، لا يزال يعمل وفق عقلية القُطرية الضيقة. فالاستعمار خرج، لكنه ترك وراءه أنظمة تخدم مصالحه أكثر مما كان يفعل هو بنفسه.
زمن الاستعمار كان أرحم؟
من المفارقات العجيبة أن كثيرين باتوا يتساءلون: هل كان زمن الاستعمار أرحم؟ قد يبدو هذا السؤال صادمًا، لكن بالنظر إلى الواقع، نجد أن العربي في زمن الاستعمار كان يتمتع بحرية حركة أكبر مما هو عليه اليوم.
لم تكن هناك حدود تعيق تنقله، ولم يكن بحاجة إلى تأشيرات معقدة لدخول بلد عربي آخر.
نعم، كان الاستعمار ظالمًا ومستغلًا، لكن أنظمة ما بعد الاستقلال لم تكن أقل استبدادًا، بل ربما زادت الأمر سوءًا بإغلاق الأبواب أمام شعوبها، وتحويل الدول العربية إلى سجون كبيرة لا يستطيع المواطن الخروج منها إلا بإذن السلطات،
وفي كثير من الأحيان، يجد نفسه مضطرًا للفرار بحثًا عن حياة أفضل في بلدان بعيدة عن هويته وثقافته.
الوحدة الأوروبية مقابل التمزق العربي
بعد الحرب العالمية الثانية، كانت أوروبا مدمرة ومنقسمة، لكن قادتها أدركوا أن استمرار الصراعات يعني انهيارًا مستمرًا. فأسسوا الاتحاد الأوروبي، وألغوا الحدود، وسمحوا بحرية التنقل بين دولهم.
في المقابل، استقل العرب ليغرقوا في حروب داخلية، ويعززوا الفروقات المصطنعة بينهم.
كان يمكن للعرب أن يؤسسوا اتحادًا مماثلًا، خاصة مع امتلاكهم لغة مشتركة، وتاريخ موحد، ودين يجمع معظمهم.
لكن الأنظمة التي تولت الحكم بعد الاستقلال لم تكن تسعى إلى نهضة الأمة، بل إلى تكريس سلطتها الفردية، ولو على حساب تشرذم الشعوب.
واخيرا: هل ما زلنا مخدوعين؟
ما يسمّى "الاستقلال" لم يكن تحررًا حقيقيًا، بل كان إعادة تشكيل للهيمنة الأجنبية بطرق أكثر تعقيدًا.
والأنظمة التي حكمت بعد الاستقلال لم تعمل على توحيد العرب، بل على تمزيقهم وتحويلهم إلى كيانات متناحرة.
اليوم، مع كل أزمة وحرب، يتأكد العرب أن مشكلتهم ليست فقط في أعدائهم، بل في حكوماتهم التي صنعت حدودًا وهمية، واستغلتهم تحت شعارات جوفاء.
فهل سيظل العرب يحتفلون بهذه "الكذبة"؟ أم سيستفيقون يومًا ليدركوا أن الاستقلال الحقيقي لم يأتِ بعد؟
بقلم: أ. عبدالله الشرعبي