
المصلحة المشتركة في استقرار اليمن
يعيش المواطن اليمني اليوم حالة إحباط عميقة من تراكم أزمات الدولة الوطنية، وتراكم إخفاقات الجمهوريات التي تحوّلت في العالم العربي إلى أنظمة عائلية عسكرية، فقدت جوهرها الديمقراطي الشعبي، وعجزت عن النهوض بالتنمية.
هذا الواقع، مع تردي الأوضاع الاقتصادية واستبطان المقارنة المستمرّة مع أنظمة ملكية مجاورة أكثر استقراراً وثراءً، يغذّي خطابات خطيرة تدعو إلى النكوص الحضاري والارتداد من مشروع الدولة الوطنية الحديثة إلى دولة القبيلة أو استنبات نظام كهنوتي في اليمن.
ولكن هذه الدعوة تتجاهل أبسط حقائق الواقع اليمني: مجتمع متنوع قبليّاً ومناطقيّاً بلا قبيلة واحدة جامعة، ولا اتحاد قبلي مستقر. وقد أشار ابن خلدون إلى أن الأوطان التي تتعدّد فيها العصبيات قلما تستحكم فيها الدولة، وهو هنا يقصد الدولة القائمة على عصبيّة القبيلة.
أما علم الاجتماع السياسي الحديث فيؤكّد أنه كلما زاد عدد المكوّنات الاجتماعية الصغيرة والمتعددة زادت الحاجة إلى الوطنية وتجاوز مرحلة "دولة القبيلة" نحو "دولة القانون العام". ...
صحيحٌ أن النموذج الأمثل للدولة الحديثة أن يكون كل مواطن ممثلاً نفسه، بلا وسائط قبلية أو مذهبية، لكن هذه المكوّنات إذا وُجدت من الأفضل أن تكون متعدّدة ومتباينة المصالح، بحيث لا يستطيع أيٌّ منها أن تفرض هيمنتها،
ومن ثم تتولّد الحاجة الموضوعية إلى الدولة الوطنية الحديثة التي تقوم على "الوطن" كجغرافيا يعيش فيها "مواطنون" متساوون، مختلفو الانتماءات القبلية والعرقية والمذهبية، لكنهم يجتمعون في ولاء واحد هو "الجماعة الوطنية".
وتتمثّل هذه الجماعة اليوم في الشركات والأحزاب والنقابات ومنظمات المجتمع المدني، وهي التي ينبغي أن تكون أساس بناء المؤسّسات العسكرية والأمنية.
أما إذا أُنشئت هذه المؤسّسات على أيدي اتحادات قبلية أو ضباط محدودين وبإسناد خارجي، فإنها تتحوّل إلى ما يشبه "قبيلة عسكرية"، تحمل معها الانقلابات والاضطرابات بدلًا من الاستقرار. وهذا ما نعاني منه.
هنا ينبغي التذكير بأن سؤال التنمية في جوهره مركّب، لا يمكن اختزاله في طبيعة النظام: ملكيّاً كان أو جمهوريّاً.
ففشل الدولة الوطنية في العالم العربي، ومنها اليمن، في التحوّل إلى دولة ديمقراطية تنموية، أو حتى إلى دولة عسكرية تنموية، لا يرتبط بشكل النظام بقدر ما يرتبط بغياب التوازن بين الحرية والتنمية، وبفشل النخب الحاكمة في بناء دولة مؤسّسات.
ولعل من الأهمية هنا استحضار النظريات التي ربطت في التجربة الغربية بين الحرية والديمقراطية والتنمية، وفي المقابل، النموذج الصيني الذي ربط بين حرية السوق والشيوعية الرأسمالية للحزب الواحد أداة للنهوض الاقتصادي.
وإذا كانت المقارنة بين اليمن والأنظمة الملكية المجاورة تُستعمل أحياناً للاستدلال على فشل الجمهوريات، فإنها، في الحقيقة،
تضر الجميع: تضرّ اليمن والجمهورية من جهة، وتضرّ أيضاً الأنظمة الملكية من جهة أخرى، لأن لكل نظام خصوصيته التاريخية والاجتماعية التي نحترمها،
فقد جرّب اليمن الأنظمة السلطانية والملكية، وفشلت في توحيد اليمنيين، بينما استطاع النظام الجمهوري أن يجمع شتاتهم ويقيم لهم إطاراً وطنيّاً جامعاً. وما أفسده الحوثيون اليوم لا يمكن أن تصلحه العودة إلى الماضي الإمامي الكهنوتي.
ومن هنا، استقرار الأنظمة الملكية المجاورة نفسها مرتبط باستقرار الجمهورية في اليمن؛ فأمن المنطقة كلٌّ لا يتجزّأ، ودعم النظام الجمهوري اليمني لا يمثل فقط مصلحة وطنية لليمنيين، بل أيضاً مصلحة استراتيجية للجوار، فمحاولة استنبات ملكية في اليمن لا تنسجم مع طبيعته، وستنعكس سلباً على استقرار الإقليم بأسره.
والأفضل لدول المنطقة أن تتفهّم خصوصية الواقع اليمني وأن تدعم استقرار نظامه الجمهوري، الذي لا يشكل أي تهديدٍ على الجيران، بل ضمانة لأمنهم.
ومن المهم أن يدرك اليمنيون أولاً أن النجاح الاقتصادي في دول المنطقة مبنيٌّ على غياب الصراعات القبلية والمذهبية والأيديولوجية وتجانس التركيبة الاجتماعية السكانية/ ووجود موارد نفطية هائلة ليست متاحة لليمن، وأن اليمنيين جرّبوا أنظمة غير جمهورية، قبل ثورتي سبتمبر (1962) وأكتوبر (1963)، وكانت أكثر بؤساً وتخلفاً:
وكان الشعب اليمني محروماً من التعليم، الصحّة، الطرق، الحرية، والحد الأدنى من الكرامة.
التفكير في أزمات الدولة الوطنية مشروع وضروري، لكن الخطر أن يتحوّل النقد إلى دعوة إلى الردّة عنها، فاليمن لا يمكن أن ينهض إلا عبر الجمهورية والدولة المدنية الحديثة.
أي بديل عنها سيكون ردّة: إما إلى دولة قبلية مفكّكة أو إلى دولة دينية كهنوتية مستبدة.
ولهذا، ليس الدفاع عن الجمهورية تمسكّاً بشعار تاريخي، بل هو دفاع عن حق اليمنيين في أن يكونوا مواطنين أحراراً، وعن مستقبل اليمن دولة واحدة، لا إقطاعيات قبلية أو ثيوقراطية كهنوتية.
مجيب الحميدي
كاتب وباحث يمني في الفكر الإسلامي