
الحرب الروسية الأوكرانية والتحكيم الأمريكي الصعب
ما من حرب تستمر إلى ما لا نهاية. ثمة حروب في المقابل يصبح إخمادها الشغل الشاغل للمتناحرين فيها، في الوقت نفسه الذي يستبد بهم التوجس من اليوم التالي لها.
كيف لا تكون ما بعد الحرب زلزالا سياسيا إن في موسكو وإن في كييف، هو الكابوس الذي يعترض كل تسوية – حتى إشعار آخر – للنزاع المتجذر بين الدولتين السلافيتين الشرقيتين في إثر الاجتياح الروسي للأراضي الأوكرانية عام 2022 ومن بعد ثماني سنوات على الضم من جانب واحد لشبه جزيرة القرم وإشعال بهة حوض نهر الدون بالحيوية الانفصالية.
التوجس من وقف الحرب
المساعي الدبلوماسية التي قادها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في الآونة الأخيرة تعبير عن ادراك أساسي بأن حال السأم بين موسكو وكييف من الحرب،
يقابلها حال التوجس من وقف الحرب، تستدعي رعاية خارجية لعملية التبريد وتخفيف حدة النزاع وصولا إلى وقف إطلاق النار وباتجاه السلام.
هذا الدور لا تستطيع التركيبة الأوروبية الاضطلاع به، قسم أساسي من بلدان القارة مشارك بحماس في المواجهة العسكرية ضد الجيش الروسي.
هذا في حين لم تعد تتردد الراديكاليتان اليمينية بالدرجة الأولى، واليسارية بالدرجة الثانية، ضمن أوروبا، في التعبير عن عواطفها تجاه روسيا بوجه أوكرانيا.
دول الجنوب العالمي أيضا لا قدرة لها على القيام بدور ريادي في هذا المجال. تركيا استطاعت استقبال قنوات اتصال بين المتحاربين من أول النزاع.
لكن، ليست هناك من قوة بمستطاعها إخراج موسكو وكييف من الورطة المزدوجة سوى الولايات المتحدة الأمريكية.
لا يعني هذا أنها تمتلك مفتاحا سحرياً لأجل ذلك. مع إدارة دونالد ترامب هي تهتدي مع ذلك لمفتاح أولي لاستشراف أفق التحكم التهدوي بمسار النزاع:
أن العمل على دمج أوكرانيا بمنظومة حلف شمالي الأطلسي كان عاملا خاطئا من أساسه، يورط أمريكا والحلف معها في مغبة التوسع غير السوي والمتصدع.
في الوقت نفسه لا يمكن لترامب أن يعطي للروس ما لم يتمكنوا من تحصيله بالحرب.
فهذه الحرب أظهرت بشكل واضح أن الجيش الروسي في حالة هرمة، وأن روسيا نفسها التي لا تعرف كيف توقف الحرب ولا أن تحسمها تخشى على نفسها كذلك الأمر من التعبئة العامة، من أي مدخل للتعاقد المجتمعي بين الجهاز الحاكم فيها وبين عموم الأمة، بالشكل الذي يؤسس لموجبات متبادلة لاحقاً.
ليست الحرب الروسية الأوكرانية من النوع الذي يمكن تعطيله بالصدمات المشهدية الايجابية، جراء عقد قمة آلاسكا أو استقبال فلوديمير زيلينسكي في تلوها في البيت الأبيض. مشكلة هذه الحرب هي في خوف القيادتين من مغبة إيقافها.
من الشرخ الداخلي الذي سيحدثه الواقع التالي عليها. من انكشاف المقدار الكبير من عبثيتها. عبثية المناداة، في أوكرانيا من بعد جيورجيا، بالانضمام للحلف الأطلسي. عبثية العمل، في روسيا، على تفتيت الدولة الأمة الأوكرانية.
تراجع شعبية الحرب في روسيا وأوكرانيا
حتى الساعة لا تزال هناك هوة تفصل السياق الروسي الأوكراني عن إخماد النيران. هناك تصور أولي يجري تداوله يتعلق باكتفاء روسيا بالظفر بالدونباس في مقابل التخلي عن المناطق الأخرى.
هذا من دون التطرق إلى وضع القرم. لكن هذا التصور لا يزال ارهاصيا. مشكلة النظامين في موسكو وكييف أنهما هربا من التصدع في مستويات الشرعية والمأسسة لكليهما بالذهاب للمواجهة والحرب، ويصعب عليهما الآن مواجهة الشعبين بأي تصور كان لإنهاء حال الحرب.
في الوقت نفسه تراجعت شعبية الحرب في البلدين. زادت وطأتها. جاءت ولاية ترامب لتهشم السرديات القومية الروسية والأوكرانية حول هذه الحرب، وتظهر طابعها العبثي. في الوقت نفسه،
لا تحبذ إدارة ترامب مواجهة واقع دولي يترنح فيه أي نظام كان، فكيف إذا كان نظام بوتين في روسيا والحكم القائم في أوكرانيا؟ قلما يجري التطرق لهذا الأشكال.
وهو أن مصير كل من بوتين وزيلينسكي بات على المحك. ترامب الذي لا يحبذ واقعا يضطر فيه لإدارة عملية سقوط أنظمة والافق الانتقالي بعد ذلك،
يساهم على طريقته في تعرية النظامين، باظهار عبثية طلب الانضمام للأطلسي من ناحية، وعبثية الشعارات التي خاضت بموجبها روسيا الحرب من ناحية ثانية،
لتنتهي هي وأوكرانيا في نهاية المطاف تحتاجان للوسيط الأمريكي، تحتاجانه ولا تستطيعان في الوقت نفسه الخروج بسهولة من المأزق الحالي، مأزق الخوف من إنهاء الحرب في مقابل الإرهاق المتزايد الذي تسبب به عملية استمرارها.
اقفال نزاع عمره 11 عاما منذ ضم القرم واشتعال حرب الدونباس وعمره ثلاث سنوات ونصف منذ الاجتياح الروسي الواسع في شباط/فبراير 2022 لا يمكن استعارة مشهديته من أسلوب قطع الطريق من دون استفحال المواجهة في الشهور الماضية بين باكستان والهند، أو إسرائيل وإيران، أو ميانمار وتايلند.
في الوقت نفسه، ترامب يمسك بورقة غير مسبوقة بهذا القدر لأمريكا: انها مرجع التحكيم الأول في العالم، حتى وهي كانت وراء دعم أوكرانيا ولا تزال عمليا، في وجه روسيا.
إلا ان ذلك وقبل أن يفضي إلى اتفاق سلام له ان يسلك مرحلة اخماد عملي للنزاع يتمثل بتثبيت خط الجبهة، وهذا لا يمكنه ان يحدث من الجانب الروسي قبل السيطرة على كل حوض الدونباس،
ولأجل ذلك لا يزال الروس يحاولون تأجيل استحقاق وقف إطلاق النار، في حين يتحلى الأوكرانيون بالبراغماتية أكثر على هذا الصعيد، في مقابل صعوبة لديهم لتبرير التنازل الرسمي عن أي من أراضي بلادهم.
وسام سعادة