
إسرائيل دولة مارقة… في عصر البلطجة
إسرائيل دولة مارقة، ليست شتيمة بحق دولة الاحتلال التي تمارس الإبادة في قطاع غزة منذ نحو سنتين.
هي واقع حال وصفه بشكل دقيق رئيس الوزراء الأسكتلندي السابق حمزة يوسف، ودأب على تكراره هذا الشهر في حديثه عن خرقها القانون الدولي الإنساني وإصرارها على ذلك، فيما اتفق أمين عام الأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش ووزير الخارجية البريطاني ديفيد لامي على وصف ما يحصل بأنه «فضيحة أخلاقية».
قد لا يكون حصار قطاع غزة وقطع المساعدات عنه الوحيد الذي يشهده العالم في هذا القرن.
فثمة أمثلة حاضرة في الذهن، وثقتها وكالات الأمم المتحدة والمنظمات الحقوقية العالمية خلال العقدين الأخيرين.
ففي مطلع 2017 شدّد النظام السوري السابق حصاره على الغوطة الشرقية في ريف دمشق، مغلقًا الأنفاق ومعابر الإمداد وصولًا إلى دوما، مانعًا دخول الغذاء والدواء والمساعدات، قبل أن يشن مع حليفه الروسي حملة قصف شملت هجومًا كيميائيًا على 400 ألف مدني محاصرين منذ سنوات.
وخلصت لجنة تحقيق تابعة للأمم المتحدة في عام 2018 إلى اعتبار حصار الغوطة الشرقية الذي استمر خمس سنوات «جريمة ضد الإنسانية» بسبب تجويع المدنيين عمدًا ومنع الغذاء والدواء.
وقال الأمين العام للأمم المتحدة السابق بان كي-مون عام 2016: «إن استخدام الجوع كسلاح في الصراعات، كما يحصل في سوريا، هو جريمة حرب.»
وربما الأهم أيضًا في سوريا كان حصار النظام وحلفائه لمدينة حلب الذي استمر قرابة أربع سنوات، حيث واجه 250 ألف مدني خطر المجاعة، ما دفع الأمم المتحدة إلى التحذير من مجاعة وشيكة في شرق المدينة في خريف 2016، مع نفاد الغذاء والدواء وسط استمرار الحصار ومنع دخول المساعدات.
اُستخدم الحصار الإنساني كذلك في اليمن بأشكال متعددة، سواء من قبل التحالف خلال سنوات الصراع حيث فُرضت قيود على دخول الإمدادات والواردات الغذائية، أو من الحوثيين في تعز الذي لا يزال مستمرًا منذ عام 2015 ويشمل قطع إمدادات المياه.
واُستخدم الحصار مجددًا في الصراع على إقليم تيغراي في إثيوبيا (2020–2022)، حيث وصف مسؤولون في الأمم المتحدة ما جرى من قبل القوات الحكومية بأنه «حصار بحكم الأمر الواقع».
كما استخدمت القوات الروسية الحصار في مدينة ماريوبول الأوكرانية في شباط/فبراير 2022، وهو حصار استمر حتى مايو/أيار من العام نفسه.
واُستخدم الحصار الإنساني في السودان منذ اندلاع الحرب في نيسان/أبريل 2023، فتحولت مدينة الفاشر على سبيل المثال إلى رمز لمعاناة الحصار، ما أدى إلى نقص كارثي في الغذاء والدواء. ووصف مسؤولون في الأمم المتحدة ما يحدث بأنه «تجويع ممنهج» وقالوا إن «منع المساعدات جريمة حرب». كما أكدت «هيومن رايتس ووتش» في تقريرها السنوي لعام 2025 أن الحصار على دارفور استخدم «التجويع الممنهج كسلاح حرب».
لكن الحصار المفروض على غزة، كانت له تداعياته الواسعة.
فهو لم يبدأ في آذار/مارس الماضي، بل في العام 2007، وهو العام الذي سيطرت فيه حركة «حماس» على غزة.
ويفصّل منشور لمنظمة الأمم المتحدة للطفولة ـ «يونيسف» صدر عام 2022 المسار الزمني لحصار إسرائيل للقطاع.
ويذكر أنه في حزيران/يونيو 2007، وبعد استيلاء حركة «حماس» العسكري على قطاع غزة، شددت السلطات الإسرائيلية بشكل كبير القيود المفروضة على الحركة، فعزلت فعليًا القطاع عن بقية الأرض الفلسطينية المحتلة والعالم. و«قد فاقم هذا الحصار البري والبحري والجوي القيود السابقة بشكل كبير، إذ حدد أعداد وفئات الأشخاص والبضائع المسموح لهم بالدخول والخروج عبر المعابر التي تسيطر عليها إسرائيل».
شمل ذلك خفضًا في تصاريح الخروج والدخول (حرية التنقل)، وفي الموافقة على خروج المرضى للعلاج، ما أدى إلى وفيات.
وتزامن – حسب «يونيسف» – مع إغلاق السلطات المصرية معبر رفح لفترات طويلة بعد عام 2014 «بسبب الاضطرابات السياسية في مصر».
وتقول «يونيسف» إنه بعد فرض الحصار، انخفض عدد الشاحنات التجارية الخارجة من غزة بشكل كبير فوصل إلى شاحنتين فقط في المتوسط شهريًا عام 2009.
عادت قوات الاحتلال لتشدد الحصار بعد هجوم «حماس» في تشرين الأول/أكتوبر 2023.
حق الفلسطينيين في الغذاء
وفي تقرير المقرر الخاص للأمم المتحدة المعني بالحق في الغذاء مايكل فخري (تموز/يوليو 2024) حول التجويع وحق الفلسطينيين في الغذاء والسيادة الغذائية، تحدث صراحة عن حملة التجويع التي أعلنتها إسرائيل في 9 تشرين الأول/أكتوبر 2023 وتشمل حصارًا وتجويعًا كاملاً ضد غزة، ما جعل بحلول كانون الأول/ديسمبر 2023، 80 في المئة من سكان العالم الذين يعانون مجاعة أو جوعًا كارثيًا هم من الفلسطينيين في غزة (2.3 مليون).
وأكد انه «لم يحدث في تاريخ ما بعد الحرب العالمية أن جرى دفع شعب بأكمله إلى الجوع بهذه السرعة وبهذا الشمول كما حدث مع 2.3 مليون فلسطيني يعيشون في غزة.»
وأوضح أن إسرائيل استخدمت التجويع كسلاح حرب وجريمة ضد الإنسانية، ورأى أن هناك أدلة واضحة على نية الإبادة، مشيرًا إلى طلب المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية إصدار مذكرات توقيف بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو ووزير الجيش يؤاف غالانت بتهم تتعلق باستخدام التجويع والإبادة. كما وثّق تقريره تدمير إسرائيل الأراضي الزراعية والمرافئ ووسائل الصيد، ما قضى على 93 في المئة من قطاع الزراعة والصيد، وأدخل سكان غزة في اعتماد كلي على المساعدات، التي بدورها «استُخدمت كسلاح سياسي».
وقارن التقرير حالة غزة مع السودان واليمن وسوريا وأوكرانيا، فلاحظ أن جميعها نتاج أزمات سياسية وصراعات مسلحة مدعومة خارجيًا، حيث يُستخدم الغذاء كسلاح.
وعادت إسرائيل منذ أن انقلبت على اتفاق وقف إطلاق النار في ربيع هذا العام لتشدد الحصار مع مطلع آذار/مارس، ليتبع ذلك «مأسسة الحصار» عبر إنشاء شركة مدعومة إسرائيليًا وأمريكيًا هي «مؤسسة غزة الإنسانية» التي ارتبط اسمها بأعمال قتل الغزيين من طالبي المساعدات، وبالتواطؤ في جرائم التجويع.
لكن إذا كان تقرير مايكل فخري أشار إلى أن ما حدث غير مسبوق منذ الحرب العالمية الثانية قياسًا بالجوع الكارثي، فإن ما يميز هذا الحصار كذلك هو الحملة الشعواء على وكالات الأمم المتحدة وعلى القضاء الدولي، والتي ارتبطت بإجراءات ملموسة تمثلت بعقوبات فرضتها إما إسرائيل أو حليفتها إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب.
فمن جانب الحكومة الإسرائيلية بدأت الحملة ضد القانون الدولي الإنساني مبكرًا.
ففي كانون الأول/ديسمبر 2023 أبلغت دولة الاحتلال الأمم المتحدة بعدم تجديد تأشيرة منسّقة الشؤون الإنسانية للأرض الفلسطينية المحتلة لين هاستينغز.
وكانت هاستينغز أعربت قبل ذلك عن أسفها لأن «الظروف المطلوبة لإيصال المعونات إلى الناس في غزة لا تتوفر». وقالت إن «كميات الإمدادات الإغاثية والوقود التي سُمح بإدخالها ليست كافية على الإطلاق».
وفي تشرين الأول/أكتوبر 2024، مرر الكنيست قانونًا يحظر عمل وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين «الأونروا» داخل إسرائيل، وشمل ذلك بالتطبيق القدس الشرقية المحتلة.
وفي شباط/فبراير من العام الحالي، أقر الكنيست مشروع قانون يُجرّم تعاون الإسرائيليين مع المحكمة الجنائية الدولية (عقوبات قد تصل إلى 5 سنوات سجن، وتشديدات إضافية إذا شمل التعاون مواد مصنّفة سرية).
أما في الولايات المتحدة الأمريكية، فبدأ الأمر مبكرًا مع إدارة ترامب.
ففي كانون الثاني/يناير 2025، أقرت الغالبية الجمهورية المؤيدة لإسرائيل في مجلس النواب مشروع قانون «التصدّي للمحكمة غير الشرعية» لفرض عقوبات على من يتعاون مع المحكمة الجنائية الدولية ضد مواطني الولايات المتحدة أو الحلفاء (ومنهم الإسرائيليون)، قبل أن يعرقل صدوره الديمقراطيون في مجلس الشيوخ.
لكن في شباط/فبراير من العام نفسه، أصدر ترامب أمرًا تنفيذيًا يفرض فيه عقوبات على المحكمة الجنائية الدولية، وعدّها تستهدف الولايات المتحدة و«حليفها إسرائيل».
وفي حزيران/يونيو الماضي أدرجت الإدارة الأمريكية أربعة قضاة في المحكمة الجنائية الدولية على لائحة العقوبات (تجميد أصول وقيود مالية).
وفي تموز/يوليو فُرضت عقوبات أمريكية على فرانشيسكا ألبانيزي، المقرّرة الأممية الخاصة المعنية بالأراضي الفلسطينية المحتلة.
وهذا الشهر، أصدرت واشنطن حزمة إضافية من العقوبات على أربعة مسؤولين في المحكمة الجنائية الدولية (قضاة ونوّاب مدّعين)، على خلفية ملفات تخصّ إسرائيل والولايات المتحدة.
وأثارت هذه العقوبات غضب وكالات الأمم المتحدة المعنية وكذلك جهات حقوقية مرموقة، فضلا عن معارضة حكومات أوروبية عديدة لها.
وفي الدورة التاسعة والخمسين لمجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة في جنيف في تموز/يوليو الماضي، أدان المفوض السامي لحقوق الإنسان، وخبراء حقوق الإنسان المستقلون التابعون للأمم المتحدة، والدول والمجتمع المدني بشدة ما وصفوه بـ»العقوبات والتهديدات الانتقامية التي فرضتها الولايات المتحدة ضد مسؤولي «المحكمة الجنائية الدولية» وأشخاص آخرين يدعمون المحكمة».
وقال بيان مشترك عن هذه الجهات إن على المجتمع الدولي «أن يقف إلى جانب الضحايا والساعين لتحقيق العدالة، وأن يتحد ضد الإفلات من العقاب» وإن «العقوبات يجب أن تكون ضد مرتكبي الجرائم، لا ضد من يسعون إلى العدالة».
ولم يسبق لوكالات الأمم المتحدة أن واجهت هجمة شرسة بهذا الحزم مثل تلك التي تشنها إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية، لا خلال الحرب الباردة، ولا بعد ذلك.
صحيح أنه في الحرب الباردة، عمدت بعض الدول إلى اتخاذ مواقف من بعض الوكالات الأممية، كانسحاب الولايات المتحدة من منظمة العمل الدولية في أواخر السبعينيات من القرن الماضي، أو الولايات المتحدة وبريطانيا من «اليونيسكو» عام 1984 (قبل أن يعودا إليها فيما بعد)..
وصحيح أن السنوات اللاحقة شهدت خطوات من قبل بعض الحكومات يمكن وصفها بـ»الإجراءات العقابية» بحق منظمات الأمم المتحدة وعملها، شملت انسحابات وطرد مسؤولين (إثيوبيا 2021) أو وقف تمويل، وتجميده، وطاولت الإجراءات الأمريكية منظمات مثل «صندوق الأمم المتحدة للسكان»، و«الأونروا» و«منظمة الصحة العالمية» (في إدارة ترامب الأولى).
لكن العقوبات المالية المباشرة على الأشخاص والكيانات، وتشريع قوانين تجرّم من يتعاون مع وكالات الأمم المتحدة، استخدم على نطاق خطير في حالة غزة، من جانب إسرائيل والولايات المتحدة، وهو في هذا النطاق غير مسبوق.
وربما أفضل وصف لهذا الحال ما ذكرته المقررة الأممية ألبانيزي في كلمتها أمام الدورة 59 لمجلس حقوق الإنسان الشهر الفائت، بقولها إن العقوبات الأمريكية الموجهة ضدها «أساليب ترهيب على طريقة المافيا».
وأسلوب البلطجة هذا يبدو أنه يتحول إلى سياسة معتمدة لدى الإدارة الأمريكية وحكومة المتطرفين في إسرائيل. عمد إليه ترامب ليس فقط ضد وكالات الأمم المتحدة والقانون الدولي، بل ضد الدول التي هدد طيفا واسعا منها بإجراءات عقابية، خصوصًا بالرسوم الجمركية، لتحقيق أهداف في مجالات متنوّعة.
وتساءل سانجاي جي. ريدي، الأستاذ مشارك في الاقتصاد في «مدرسة نيو سكول للبحوث الاجتماعية» في نيويورك، في مقال نشرته «فورين بوليسي» في شباط /فبراير الماضي، «إلى أي مدى يمكن أن ينجح هذا الأسلوب في السياسة الخارجية؟» و«هل ترقى البلطجة إلى مستوى استراتيجية؟».
وإذا كانت سياسة البلطحة هذه تجاه الدول قد تحقق أهدافها على المدى القصير، لكنها تطرح بالنسبة للعالم تساؤلات أكثر جدية فيما يخص استخدامها تجاه المنظومة الدولية لتبرير جرائم الإبادة كما يحصل في غزة، ولجعل الإبادة – بما في ذلك التجويع واسع النطاق – تكتيكا مقبولا في السياسة الخارجية.
وهذا التحدي الذي لم تجب الدول الأوروبية عليه بشكل كاف بعد رغم مواقفها المعترضة وإعلاء صوتها في الآونة الأخيرة فيما يتعلق بغزة، هو العامل المؤثر في تحديد الاتجاه الذي ستكون عليه الحروب.
ليس فقط في غزة.. بل في العالم كله. وبعد ذلك، يمكن ربما يترك للخيال أن يصبح واقعا، فينال الرئيس الأمريكي دونالد ترامب جائزة نوبل للسلام، ويرشحه بنيامين نتنياهو لذلك.
وائل الحجار
القدس العربي