"اللايقين" صراع من البيت العماني إلى الشارع الخليجي
صدرت رواية "اللايقين" للكاتب الروائي العماني محمد الفزاري، رئيس تحرير شبكة "مواطن" الإعلامية، المعنية بقضايا دول الخليج، عن "المؤسسة العربية" للدراسات والنشر. تثير الرواية تساؤلات عديدة حول اليقين المطلق في العوالم المتغيّرة، وتبحث عن الحرية والهوية، يبدأها الكاتب بالسرد الذاتي عن طفولته ونشأته، متخذاً بذلك طريقاً لاجتذاب القارئ فيأخذه في مهمة للبحث عن الحقيقة وطبيعتها ومعرفتها.
يستخدم الكاتب أسلوب التفكير النقدي للتمرد على الأعراف الاجتماعية والقيم السائدة داخل المجتمع العماني، يعرض أفكاره بشكل سلس يتمتع بالوضوح، مستهدفاً دعوة القارئ إلى التحرر من القيود جمعاء، ويرشده إلى الحرية عن طريق التشكيك في اليقينيات.
صراعات البحث عن الحقيقة
في الفصل الأول، يَشعر القارئ كما لو كان صديق الكاتب المقرب الذي لطالما كان يبحث عنه طوال الأعوام الماضية، يشكو له معاملة أبويه ومقارنة تفوّقه الدراسي بابن الجيران، والحزن الذي يخيّم على قلبه عندما يحس أن شقيقه الأكبر يحظى بمحبة واهتمام أكبر لدى العائلة دونه، هذه الطريقة فتحت له الباب لترك الأسى والسير على درب الثورة، التي زجّت به في المعتقل.
يرسم الكاتب صورة دقيقة للعائلة العمانية، ويجعل عقل القارئ يتخيل أنه يتجوّل بين الأهالي ويصلي الفجر في مساجدهم، ويستمع إلى شيوخهم... يبدأ التمرد على كل شيء، لكنك تلمس بوضوح ملامح صراع التغيرات الفكرية لدى عقول الشباب، ورفض كل ما هو تقليدي داخل البيت وخارجه.
يتحدث الكاتب عن الاتهامات التي لحقت به والهجوم الذي حلّ عليه، عبر الإنترنت، اتهم بالمهرطق، وعانى من مطاردات الأقارب والأصدقاء والمعارف، كأي شاب فكر أن يحلق خارج السرب، أو يتعدى حدود الأسوار الفكرية التي نعيش كلنا داخلها وتفرضها علينا سلطة المجتمع والدين على حد السواء، تحدث بصدق شديد عن الإطار المحدد للتفكير الديني في الخليج عامة وفي سلطنته خاصة، وربما يقصد كل القصد قريته، التي لا تختلف عن القرى المهمشة النائية في ربوع بلادنا العربية جمعاء.
الزواج في الشارع العماني
يستعرض الكاتب العلاقة النمطية للزواج في بلاد الخليج، فالفتاة هناك لا تعرف شريكها إلا بعد عقد وثيقة الزواج، إن كانت كما وصف محظوظة، وأحياناً أخرى، لا تعرفه إلا بعد الزواج، حسب ما يقتضي الدستور المجتمعي.
يتخذ الكاتب طريقة سلسلة في الانتقال من مرحلة فكرية إلى أخرى، تتوسع من نقطة التفكر، فالتدبر، ثم التمرد، وتأثير كل فترة عمرية على أحكام الفرد العقلية والإدراكية، بدءاً من اعتراضه على أسلوب التربية الخاطئ في منظومة الأسرة، إلى المدرسة والجامعة فالمجتمع، كل منظومة تفرض قيودها التي استمدتها من العرف الجمعي والمجتمعي من دون النظر إلى عما يفكر فيه أحد أعضاء النسق الاجتماعي.
في الفصل الثاني، يستعير الفزاري شخصية حلاق قريته الواقعة في سلطنة عمان، كناية عن المجتمع وتدخلاته المستمرة في حياة البعض، حينما يفرض قوانينه عليهم ويجبرهم على الالتزام بها من دون رغبتهم، فمهنة "الحلاق" تستوجب عليه أن تكون يده خفيفة، وقليل الكلام، يؤدي خدمته ويأخذ أجره بلا إبداء أي رأي أو فرض وجهة نظر، لكنه يرى في رغبة الزبون الذي يريد حلق لحيته، طلباً معبّراً عن الانفلات الأخلاقي، يسأله بعدد حبات المطر هل طلبه حلق لحيته جدي؟ والحلاق نفسه غير ملتحٍ ولا تبدو عليه أي علامات التدين، وبالرغم من ذلك، يدين طلبه!.
يستكمل الفزاري نقاشه حول الحقيقة المطلقة واليقين التام، مستشهداً بقصة الصديق الذي لا يؤمن بيقين الحقائق إيماناً أعمى، بل يتدبّر الإيمان ويبحث عنه، ويشير إلى ارتباك الحقائق كلما كانت تزيد العقل حيرة ولا تشفي فضوله، هذا وحده كان يدعو إلى المزيد من القراءة والاطلاع وإيجاد الأدلة حول الوجود والتأمل في الأكوان.
يتابع الكاتب، في الفصل الثاني، صراع الشك واليقين وصراع ذاتين في عقل واحد، ذات مجبرة على التطبع بطباع المجتمع السائدة والانصياع إلى رغبات العرف، ذات مرغمة أن تكون نسخة منسوخة بالورقة والقلم من عقل الموروث الشعبي والاجتماعي والديني والثقافي، وذات ثانية متمردة على كل شيء وتريد أن تحلق لكن لديها جناح مكسور، وتحيط بسماء أفكارها الأعاصير المميتة، ومع ذلك، تحاول التحليق بجناح واحد.
يشرح الفزاري مخاوف شاب مسلم عالق بين شباك الحلال والحرام، لا يريد تجربة شرب الخمر، رغم دعوات صديقه المتكررة، هذا السلوك ليس هو التمرد الذي يريده، وإنما ألا تكون هناك وصاية اجتماعية أو سطو من حماة الفضيلة على تصرفات الإنسان الفردية الخاصة، عبّر عنها في كأس الخمر، الذي جرّبه وكان ثقيلاً على يديه كما لو كان يحمل جبلاً، فالوازع الديني لا يزال ينبض في قلبه. لكنه يكره الذين يريدون أن يبقى مستقبلهم هو ماضيهم يكرهون الحياة ويدعون من حولهم إلى كرهها، لا يشاهدون التلفزيون لأنه بدعة، ولا يركبون السيارات لأنها لم تكن موجودة في حياة النبي عليه السلام، رغم أن الإسلام، لا يمنع الاستمتاع بالحياة.
الطريق إلى الجنة
يتفاقم صراع الفكر حينما يتحوّل شقيق البطل في الرواية إلى شيخ بشكل مفاجئ ومن دون مقدمات، وكل ما فعله حتى يتقلد لنفسه هذا المنصب الجديد هو ترك لحيته تطول وقصر جلبابه، وبدأ يسرد عظاته وخطبه التي لا تنتهي عليهم في المنزل، تحوّل إلى زاهد ولم يكتف بل يريد أن يتبعه كل من حوله وينفذون تعليماته ليصل بهم إلى الجنة، حتى أبيه لم يفلت منه طالبه مراراً أن يتوقف عن متابعة المسلسلات الخليجية ويشاهد القنوات الدينية حتى لا يحمل ذنوباً.
صراعات اليقين لم تتوقف لدى الكاتب عن الأفكار النقدية المتعلقة بالدين والمجتمع وإنما وصلت إلى أقرب أصدقائه، يتحدث عنه في الفصل الثالث والأخير، حينما وشى به لدى جهاز الاستخبارات في بلده، لأنه كان موظفاً في إدارة العلاقات العامة في القصر الملكي، أراد أن يقول إن اليقينيات تشمل الأشخاص أيضاً وحتى الأقرب إلى قلوبنا من الدم والعظم، لا يمكن أيضاً أن نعطي لمصداقيتهم اليقين المطلق لتصديقهم ووضعهم في مقياس الثقة الكاملة وإعطائهم مفاتيح أسرارنا ما دام بإمكانهم أن يفتحوا أبواب هذه الأسرار ويخرجوها للمتربصين.
قبل أن تقرأ هذه الرواية قد تظن أن المرأة في المجتمعات العربية وحدها التي تخضع لضوابط المجتمع الذي يفرضها عليها بأشكال متعددة، لكنك هنا تكتشف أن الرجل أيضاً يمارس المجتمع والأسرة ضده قوانينهما، فالمجتمع الذي نشأ فيه الكاتب يرفضه كونه يفكر، ولا يجوز أن يكون له رأي غير رأي الجماعة، والأسرة ترفض ذلك بجملته، كذلك يرفضون رغبته في السفر لاستكمال دراسته خارج البلاد، وكان انطباع الأسرة، ولا سيما أمه وشقيقه، برفضهما مخالفاً تماماً لما توقع أن يحدث.
يبحث الكاتب عن آليات وسبل نشر المحبة والتسامح ومكافحة نشر الكراهية وعدم قبول الآخر، يراها مهمة صعبة لكنها ليست مستحيلة، أن يقبل أهل قريته وبلده الآخر، حتى يتسرب هذا القبول إلى مجتمع الخليج بأكمله، ومن ثم إلى المجتمعات العربية كافة.
يستمر الكاتب في طرح تساؤلاته حول إمكانية السماح بممارسة التنوير الفكري، أو قبول التنوع والتعدد الفكري في مجتمعاتنا، ويترك من أراد أن يستمتع بالدنيا يعيش، ومن يعمل للآخرة يعيش أيضاً، لكن القبول أمر خطير، فالمجتمع تربطه العادات والتقاليد الاجتماعية من جهة، ويربطه المتشددون دينياً من جهة أخرى، ما يجعل القبول حلماً بعيد المنال.
الخلاص من القبيلة
ينتقد الفزاري، في روايته "اللايقين"، الأفكار القبلية التي تدفع أعضاء القبيلة الواحدة إلى الالتزام بقوانينها وتقديم السمع والطاعة العمياء لصناع الرأي وقادته في القبيلة من دون اعتراض، وهو ما يراه أمراً مرفوضاً متمسكاً بأهمية إعمال العقل والتفكير، وألا يكون الصوت الواحد والكلمة الواحدة والرأي الواحد هو النافذ في كل شيء.
يختتم الكاتب روايته بالبحث عن الحب، عن ذكريات أودعها في قلب أعماقه، عن حبيبته الماضية التي غابت ذكراها طوال الأسطر الطويلة الفائتة، كأنما لهيب الهوى قد حاصر ذاكرته عندما بدأ يستعيد شريط ذكرياته وطفولته ومسجد قريته وصلاة الفجر التي فوجئ بها والده، وزخام من الصراعات الفكرية التي لا تنتهي وربما لا تزال باقية حتى هذه اللحظة.
في آخر كلماته، يعود إلى القارئ الذي تحوّل في نصف الرواية من قارئ عادي إلى طبيب يشكو له أوجاعه النفسية، ويسترد عافيته في النهاية، ليعود إلى القارئ الصديق الذي وجده في طريق ضاق عليه وحده وغاب عنه الرفاق.
الكاتب: شيماء اليوسف