فقاعة الذهب والفضة... تصحيح قاس أم بداية انهيار؟
تراجعت أسعار الذهب والفضة بشكل حاد خلال الأيام الأخيرة بعد موجة صعود تاريخية دفعت المعدنين النفيسين إلى مستويات قياسية غير مسبوقة منذ عقود.
فبعد أن تجاوز الذهب حاجز 4300 دولار للأونصة والفضة مستوى 57 دولارا منتصف أكتوبر/تشرين الأول، شهدت الأسعار انعكاسا حادا بفعل تبدل سريع في معنويات المستثمرين وتزايد التفاؤل بشأن اتفاق تجاري وشيك بين الولايات المتحدة والصين، ما قلل الطلب على الملاذات الآمنة.
وهبطت أسعار الذهب العالمية بشكل حاد خلال الأيام الأخيرة من أكتوبر/تشرين الأول الجاري، لتفقد أكثر من 9% من قيمتها خلال أسبوع واحد بعد أن تجاوزت مستوى 4380 دولارا للأونصة في 20 أكتوبر، قبل أن تهبط إلى ما دون 4000 دولار للمرة الأولى منذ أوائل الشهر، بينما لحقت به الفضة بهبوط تجاوز 16%.
كانت أسعار الذهب قد ارتفعت خلال سبعة أسابيع فقط بنسبة 27%، وصعدت الأسعار بأكثر من ثلثي قيمة المعدن الأصفر منذ بداية العام.
وقال محللون وفق "فاينانشال تايمز"، إن هذا الارتفاع التاريخي للذهب منذ مارس/آذار الماضي لم يكن نتيجة عامل واحد، بل نتاج تداخل ثلاث قوى رئيسية: تصاعد المخاطر الجيوسياسية في الشرق الأوسط وشرق آسيا، مما زاد الإقبال على الملاذات الآمنة.
وتراجع الدولار الأميركي بفعل توقعات خفض الفائدة، ما جعل الذهب أكثر جاذبية للمستثمرين العالميين. وارتفاع مشتريات البنوك المركزية التي واصلت تعزيز احتياطاتها بعيدا عن الدولار، لا سيما في الصين والهند ودول الخليج.
ووسط هذا الارتفاع التاريخي، الذي تجاوز توقعات معظم المؤسسات المالية الكبرى، حذر محللون من فورة سعرية غير مستدامة، لكن خلال الأيام الأخيرة، انقلب المزاج العام في الأسواق العالمية رأسا على عقب، بحسب رويترز،
وواصلت أسعار الذهب خسائرها بعد أن أعلن مسؤولون من واشنطن وبكين عن تقدم مفاوضات صفقة تجارية بين الرئيسين دونالد ترامب وشي جين بينغ.
وهبطت أسعار الذهب خلال تداولات أمس الثلاثاء إلى أدنى مستوى في نحو ثلاثة أسابيع. وتراجع الذهب الفوري في بداية التعاملات الصباحية بنسبة 1% إلى 3941.65 دولارا للأونصة، وهو أدنى مستوى منذ 10 أكتوبر الجاري،
في حين فقدت عقود ديسمبر/كانون الأول الآجلة نحو 1.5% لتصل إلى 3957.50 دولارا للأونصة.
أكبر انخفاض يومي منذ 2013
وتشير بيانات "بلومبيرغ" إلى أن الأسبوع الثالث من أكتوبر شهد أكبر انخفاض يومي للذهب منذ أكثر من عشر سنوات، حين فقد في جلسة 21 أكتوبر 6.3% من قيمته في أكبر تراجع يومي منذ 2013،
وقالت الوكالة إن موجة البيع الجماعي جاءت نتيجة تحول سريع في مزاج المستثمرين نحو الأصول الخطرة بعد مكاسب قوية في الأسهم الآسيوية، إلى جانب جني أرباح ضخمة من الصناديق الكبرى التي استفادت من الصعود القياسي.
وقال تيم ووترر، كبير محللي الأسواق في شركة "KCM Trade"، إن "تحسن العلاقات التجارية بين واشنطن وبكين سحب البساط من تحت أسعار الذهب، بعد تراجع تدفقات الشراء التحوطية".
وأضاف: "إذا حقق اجتماع ترامب وشي نتائج إيجابية هذا الأسبوع، فقد يجد الذهب نفسه يسبح عكس التيار مؤقتا، لكن ذلك قد يعوض إذا تبنى الاحتياطي الفيدرالي لهجة تيسيرية خلال اجتماعه اليوم الأربعاء".
ويتوقع أن يعلن مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأميركي (البنك المركزي الأميركي)، اليوم الأربعاء، عن خفض جديد لأسعار الفائدة، في حين من المرجح أن يبقي المركزي الأوروبي وبنك اليابان على سياساتهما دون تغيير.
تنفيس الفقاعة
وصف الرئيس المنتهية ولايته لرابطة سوق السبائك اللندنية، بول فيشر، هذا الهبوط بأنه إزالة "الفوران" الزائد في السوق، وقال لـ"فاينانشال تايمز": "ما حدث الأسبوع الماضي كان مهما، لأنه أزاح الفقاعة المضاربية التي دفعت الأسعار إلى مستويات غير واقعية، ومهد الطريق أمام استقرار صحي للسوق وربما صعود لاحق أكثر تماسكا".
وقال جون ريد، كبير استراتيجيي السوق في مجلس الذهب العالمي، خلال مؤتمر رابطة سوق سبائك لندن المنعقد في كيوتو، إن الكثيرين في الصناعة يرحبون بهذا التصحيح العميق بعد موجة ارتفاع مفرطة.
وأضاف: "ربما نرى هبوطا نحو 3700 دولار قبل أن يعاود السعر اختبار قمم جديدة، فالتصحيحات لا تنتهي في أيام قليلة". وفي السياق ذاته، أكد مدير الأسواق في مصفاة "إيه بي سي" الأسترالية، نيكولاس فرابل، أن التصحيحات الطبيعية لا تنتهي في أيام قليلة،
مشيرا إلى أن السوق تحتاج إلى امتصاص الأرباح وتحقيق استقرار قبل أي صعود جديد (والمصفاة هي منشأة صناعية لتنقية المعدن الخام إلى ذهب نقي بدرجة 99.99% وفق المعايير الدولية، وتعد "إيه بي سي" من أبرز المصافي المعتمدة في بورصة السبائك بلندن).
مشتريات البنوك المركزية
وأظهرت بيانات صندوق النقد الدولي تباطؤا في وتيرة مشتريات البنوك المركزية من الذهب خلال الربع الأخير، مع اتجاه بعض البنوك الصغيرة إلى بيع جزء من احتياطاتها للحفاظ على نسب التوازن في المحافظ، بعد أن أصبحت قيمة الذهب تمثل نسبة مرتفعة من إجمالي أصولها.
ورغم هذا التباطؤ، فإن الطلب المؤسسي العام لا يزال قويا؛ إذ ارتفعت أسعار الذهب منذ مطلع العام بنسبة 53% بعدما بلغ ذروته التاريخية عند 4381.21 دولارا للأونصة في 20 أكتوبر الجاري بدعم من توقعات خفض الفائدة الأميركية وضعف الدولار وتزايد المخاطر الجيوسياسية، بحسب بلومبيرغ وبيانات مجلس الذهب العالمي.
وترى البنوك العالمية الكبرى أن التراجع الحالي لا يلغي الاتجاه الصاعد طويل الأمد. فقد رفعت غولدمان ساكس توقعها لسعر الذهب إلى 4900 دولار للأونصة بحلول نهاية 2026،
بينما تتوقع بنك أوف أميركا أن يصل السعر إلى 6000 دولار منتصف العام نفسه، في حين أبقت يو بي إس على توصيتها بالشراء عند التراجعات متوقعة عودة الأسعار إلى حدود 4700 دولار.
وتعكس هذه التقديرات قناعة بأن العوامل البنيوية الداعمة للذهب، كارتفاع الدين الأميركي واستمرار عدم الاستقرار الجيوسياسي، لم تتغير جوهريا.
وفي موازاة التراجعات الأخيرة، أظهرت بيانات مجلس الذهب العالمي أن صناديق المؤشرات المتداولة المدعومة بالذهب سجلت أكبر موجة تخارج منذ عام 2020، مع سحب أكثر من 12 طنا من الذهب خلال أسبوع واحد فقط، في إشارة إلى انتقال سيولة المستثمرين نحو الأسهم والعوائد الأميركية المرتفعة.
الفضة تحلق بالذهب
وعلى غرار الذهب، امتدت موجة التصحيح إلى الفضة التي فقدت أكثر من 16% من قيمتها منذ بلوغها أعلى مستوى تاريخي في منتصف أكتوبر. وواصلت أسعار الفضة العالمية تراجعها، خلال تداولات أمس الثلاثاء، لتستقر عند نحو 45.77 دولارا للأونصة بانخفاض 2.15% عن الجلسة السابقة، وفق بيانات بورصة نيويورك للسلع (كوميكس).
وسجلت العقود الآجلة لشهر ديسمبر نطاق تداول بين 45.51 و47.22 دولارا للأونصة، لتعمق خسائرها إلى أكثر من 3.5% خلال أسبوع واحد، مسجلة أدنى مستوى لها منذ أوائل أكتوبر.
ووفق بيانات بلومبيرغ، تراجعت العقود الآجلة للفضة إلى ما دون 48 دولارا للأونصة في 27 أكتوبر، بعد أن تجاوزت 57 دولارا في وقت سابق من الشهر، لتسجل بذلك أكبر خسارة شهرية منذ عام 2023.
وقال نائب رئيس قسم السلع في شركة ميهتا إيكويتيز، راهول كالانتري، إن المعدن الأبيض واجه موجة جني أرباح كثيفة بعد ارتفاع استثنائي استمر نحو شهرين، مضيفا أن السوق تتأثر بقوة الدولار وتحول شهية المخاطرة عالميا.
أما كبير محللي البحوث في ريلاينس سيكيوريتيز، جيجار تريفيدي، فرأى أن التراجع الحالي يعد تصحيحا قصير الأجل ضمن اتجاه صاعد طويل المدى، مشيرا إلى أن مستويات 47 دولارا للأونصة تمثل دعما رئيسيا،
بينما تبقى توقعات الطلب الصناعي إيجابية بقطاعات الطاقة الشمسية والسيارات الكهربائية والإلكترونيات الدقيقة.