مدرّجات اليمن الزراعية... تطويع الطبيعة الجبلية لتأمين الغذاء
نجح أهل اليمن في تحويل الجبال إلى مدرّجات زراعية أشبه بحدائق خضراء معلّقة، وذلك في إثبات قدرتهم على تطويع الطبيعة من خلال هندسة الأرض وخلق مساحات تؤمّن لهم الغذاء.
منذ القدم، راح اليمنيون يعملون على هندسة المدرّجات الزراعية وتشييدها في الجبال الشاهقة والوعرة. ويشير مؤرّخون إلى أنّ بناء مثل هذه المدرّجات في اليمن بدأ قبل نحو ثلاثة آلاف عام، وقد لجأ الفلاحون اليمنيون إلى الحجارة والتربة لإنجاز ذلك،
علماً أنّ المدرّج الزراعي قد يُطلَق عليه أيضاً شعبة وجمعها شعاب، فيما يُسمّى بمناطق أخرى مصطبة وجمعها مصاطب. كذلك يُعرَف المدرّج الزراعي بجلّ وجمعه جلول، وبجُرف وجمعه جروف.
وذكر الباحث الألماني هورست فوغل، في مقالة بحثية نشرتها مجلة جمعية Soil and Water Conservation Society (الحفاظ على التربة والمياه) الأميركية في عام 1987، أنّ "زراعة المدرّجات في الأراضي الجبلية المتداخلة باليمن جرت باستمرار طوال 30 قرناً من الزمن".
أضاف الباحث الألماني أنّ "الفلاحين في اليمن شيّدوا ملايين المدرّجات الزراعية والحقول عند المنحدرات الجبلية الوعرة، وأطلقوا طرقاً بسيطة وفعّالة جداً لجمع مياه الأمطار، بالاعتماد على قدرات عمّالية مذهلة".
وتُشيَّد المدرّجات الزراعية باستخدام الحجارة والتربة المتوفّرتَين في منحدر جبلي محدّد، ثمّ يُبنى جدار حجري طولي لتسوية التربة، ليتناسب طول الشعاب وعرضها مع طول مساحة المنحدر، حيث يُشيَّد المدرّج وعرضه.
ويأتي ذلك وفقاً لقواعد هندسية تساهم في الاستفادة القصوى من الأمطار التي تنتقل سيولها من الشعبة الأعلى إلى أسفلها، بعدما تكون قد حصلت على ما تحتاج إليه.
ويُخصَّص مجرى لخروج السيل في كلّ شعبة، علماً أنّ هذا الأمر يساهم في الحفاظ على المدرّجات الزراعية ويحميها من الانهيار.
وتراعي القواعد الهندسية التي تستند إليها عملية تشييد المدرّجات الزراعية عوامل التعرية، فتحرص على أن تأتي عملية التشييد بطريقة تحافظ عليها من انجراف التربة والانهيارات، وكذلك بطريقة تساهم بالحفاظ على خصوبة التربة.
إلى جانب ذلك، عمل اليمنيون القدامى على تشييد السدود للاستفادة من مياه الأمطار من خلال تخزينها، وذلك بهدف الاستفادة منها في ريّ الأشجار.
وتثبت المدرّجات الزراعية قدرة اليمنيين القدامى على التكيّف مع التضاريس الوعرة والمناخ، وتدلّ على قدرتهم على إدارة الإمكانات المتاحة بما يحقّق أفضل النتائج للاستفادة من تلك التضاريس الجبلية وتحويلها من أراضٍ منحدرة إلى مساحات صالحة للزراعة، ومن ثم الاستفادة منها.
وتساهم طريقة تشييد المدرّجات الزراعية في الحفاظ على التربة وحفظ المياه وتخزينها في جوف الأرض وتعزيز الغطاء النباتي، كذلك تؤدّي إلى زيادة التنوّع الحيوي للنباتات والكائنات الحيّة الأخرى في الطبيعة.
ويمتاز اليمن بمجتمعه الزراعي، إذ يعيش نحو ثلاثة أرباع أهل البلاد في الأرياف ويعتمدون بصورة رئيسية على العمل في قطاع الزراعة.
ويفيد المركز الوطني للمعلومات في اليمن بأنّ الجبال تحتلّ نحو 18% من المساحة الإجمالية للبلاد، ويعيش فيها نحو 70% من السكان المعتمدين على الزراعة مصدراً للدخل، وفقاً لآخر تعداد سكاني في عام 2004.
يُذكر أنّ المدرّجات الزراعية في اليمن تنتشر بالسلسلة الجبلية الممتدّة من الحدود الشمالية الغربية للبلاد حتى حدودها الجنوبية الغربية، وهذه السلسلة الطويلة تتألّف من جبال شاهقة يصل ارتفاع عدد منها إلى 3.600 متر فوق سطح البحر.
من جهتها، تفيد آخر بيانات الجهاز المركزي للإحصاء في اليمن، الصادرة في عام 2014، بأنّ مساحة أراضي المدرّجات الجبلية في البلاد تبلغ نحو 661 ألفاً و504 هكتارات، فيما تُقدَّر مساحة الأراضي المزروعة بالمحاصيل بنحو 1.1 مليون هكتار.
كذلك تشير بيانات أخرى إلى أنّ المساحة الكلية للأراضي الزراعية في اليمن تُقدَّر بنحو 1.6 مليون هكتار، وتصل أعداد الحيازات للأراضي الزراعية للفلاحين اليمنيين إلى نحو 1.191 مليون حائز.
وفي الماضي، ساهمت المدرّجات الزراعية في تحقيق فلاحي اليمن اكتفاءً ذاتياً، من خلال كونها مصدراً رئيسياً للغذاء، إذ تُزرَع فيها الحبوب بأنواعها والفواكه والبنّ وغير ذلك.
وفي محافظات صنعاء وحجّة وصعدة وريمة والمحويت وذمار وإب وتعز ولحج، كانت تُزرَع الحبوب بأنواعها، مثل القمح والشعير والشوفان ومختلف أصناف الذرة (مثل الذرة الشامية والذرة الرفيعة)،
فيما يُزرَع البنّ في جبال صنعاء ومناطق من محافظتَي تعز وإب وفي يافع بمحافظة لحج.
ومن المحتمل أن تتعرّض مدرّجات زراعية لانزلاق التربة بسبب تشبّعها بمياه الأمطار وعدم وجود جرف لتصريف الفائض من المياه، فيؤدّي ذلك إلى انهيار جدار الشعبة، الأمر الذي يستدعي إعادة بنائه من جديد.
ويبذل المزارعون في اليمن جهوداً كبيرة لحماية تلك المدرّجات من التدهور والانهيار، غير أنّ العوامل الطبيعية والاجتماعية والاقتصادية تمثّل تحديات كبرى، ولا سيّما مع ضعف إمكانيات المزارعين وغياب الدور الحكومي.
فخر العزب
صحافي يمني