جماعة الحوثي... استحقاقات ما بعد الإسناد
ترتبط فعالية جماعة الحوثي وتمثّلاتها السياسية بإنتاج الصراع وإدارته عاملاً محورياً يضمن بقاءها في السلطة. إذ تشكّل عقيدة الحرب على "العدو"، التي تتخذ بعُداً دينياً واستراتيجياً، مُوجِّهاً يحدّد تموضعاتها المحلّية والإقليمية.
وإذا كانت حرب الكيان الإسرائيلي على قطاع غزّة قد أتاحت للجماعة تركيز حربها ضدّ إسرائيل عدوّاً خارجياً، فإنّ وقف إطلاق النار خفّض التوتّرات الإقليمية، أو على الأقلّ كبحها في الوقت الحالي، ممّا جعل الجماعة، وبضغط ملفّات عديدة، تتبنّى سياسةً مزدوجةً وإن كانت بمضامين عُنفية وصراعية.
على مدى عامَين من معركتها الإسنادية، استطاعت جماعة الحوثي فرض نفسها في معادلة الصراع الفلسطيني ــ الإسرائيلي قوةً فاعلةً، وربّما وحيدةً في محور المقاومة المدعوم من إيران، سخّرت مواردها العسكرية في "معركة الطريق إلى القدس"، ترتب عليه تحويل اليمن ساحةً للردع الإسرائيلي.
ومع أن الجماعة حرصت، إلى حدّ كبير، على أن تظلّ جزءاً من المشهد الإقليمي الحالي لما بعد وقف إطلاق النار، إذ ربطت وقف هجماتها في العمق الإسرائيلي بمسارات الاتفاق،
والأهم التزام إسرائيل بوقف حربها في القطاع، فإنّ مفاعيل مرحلة ما بعد وقف إطلاق النار ألقت بثقلها على الجماعة، إلى جانب نتائج جولات صراعها مع الكيان الإسرائيلي وكلفته الاقتصادية والإنسانية،
فمعركتها الإسنادية، وإن مكّنت الجماعة من تحقيق التفاف شعبي حول خياراتها العسكرية، بمعزلٍ عن تقييم نتائجها على الداخل اليمني، والأهم تعليق التزاماتها الاقتصادية والسياسية سلطةً أمر واقع مقابل قمع أيّ مطالب مجتمعية،
فإنّ التهدئة الإقليمية أعادت استحقاقات الجماعة حيال المجتمع إلى الواجهة الشعبية والسياسية، فتحوّلت عواملَ ضغط على سلطتها،
كما صعّد ذلك ملفّ الأزمة اليمنية وآفاق المسار السياسي، ومن ثمّ استراتيجيةً لما بعد حرب غزّة سعت الجماعة إلى ضبط أولوياتها بما يخدم أهدافها، وبالطبع، في سياق معركتها الدينية مع إسرائيل التي تشكّل صلب معادلتها الصراعية واستثماراتها.
حرب ما بعد الإسناد، وفي مرحلة ضاغطة اقتصادياً وسياسياً بالنسبة إلى جماعة الحوثي، استلزمت إدارة سلطتها وفق المعادلة الأمنية، لا خياراً آنياً مشروطاً بمستويات المخاطر التي تواجهها، الحقيقية والمتوهمة،
بل فرضه واقعاً مستداماً في المناطق الخاضعة لها، يستتبع فرض إجراءات أمنية مشدّدة في إدارتها للمجال العام والحياة اليومية، مقابل تسريد رواية "الأعداء" المتخادمين مع إسرائيل وتسويقها إعلامياً ومجتمعياً، وحشد أجهزتها الأمنية لفرض القمع وسياسات الإذلال وتمرير انتهاكاتها، وتتّخذ مظاهر العسف بمستوياتها المُعلَنة، وإن لأغراضٍ مختلفة،
أولها استهداف المنظّمات الدولية باعتبارها (وفق أيديولوجيا الجماعة) مؤسّسات أجنبية تتضمّن فكرة العدو الخارجي، ما جعل استعداء المنظّمات الدولية سلوكاً نمطيّاً للجماعة، ترتب عليه تقييد نشاطها الميداني ومداهمة مقارّها واعتقال عشرات من موظّفيها.
ومع أن معظم حملات الاعتقالات ظلّت أداةً للضغط السياسي بالنسبة للجماعة لتمرير اشتراطاتها على المنظّمات، ودفعها تحت إكراهاتها إلى توسيع برنامج الإغاثة الإنسانية، إلى جانب أن الاعتقال جزءٌ من اقتصاد الرهائن الذي يدرّ عليها أموالاً طائلة...
مع ذلك كلّه، انتقل التصعيد ضدّ المنظمات بعد اتهامها من زعيم الجماعة بضلوعها بأنشطة تجسّسية، وتحميلها مسؤولية استهداف إسرائيل الحكومة في أغسطس/ آب الماضي، إلى مستوى أكثر خطورة من حيث تبعاتها.
فإلى جانب أن اتهامها بالتجسّس يعني رفع الغطاء السياسي عن نشاطها في المناطق الخاضعة للجماعة، ما يضرب مشروعية وجودها (في الوقت الحالي وفي المدى البعيد)، فإن هذه المزاعم تضع ما تبقّى من العاملين في المنظّمات الدولية، وخصوصاً اليمنيّين، في خطر حقيقي، ما يعني التصفيتين، المعنوية والجسدية،
كما أن مداهمة مقارّ المنظّمات ومصادرة أصولها (جديدها أخيراً اقتحام جهاز المخابرات التابع للجماعة المبنى السكني التابع للأمم المتحدة في العاصمة صنعاء) تشكّل انتهاكاً مزدوجاً للقانون الدولي بالتعدّي على مقرّ سكن أممي، ومصادرة أجهزة من دون أي مسوّغ قانوني، واحتجاز الموظّفين، وإن أفرجت عنهم بعد وساطة عُمانية.
يضاف إلى ذلك، وفي سياق حربها ضدّ المنظّمات، أعلنت الجماعة إعادة النظر في الاتفاقات الموقّعة معها، ما يعني تعليق الأطر التي تنظم عملها مجتمعياً.
وبالتزامن مع تصعيد معركتها الأمنية، شنّت الجماعة حملة اعتقالاتٍ واسعةً امتدّت من المناطق القبلية إلى المدن الخاضعة لها وشملت اعتقال مئات من الوجاهات الاجتماعية، ومن الصحافيين والمحامين، والنشطاء والموظّفين الحكوميين،
ومن ثمّ تسعى الجماعة، في هذه المرحلة، ليس إلى إرهاب المجتمع وإخضاعه لهواجسها الأمنية المزعومة فحسب، بل إلى توظيف ذلك للتحايل على مطالب تحسين الأوضاع الاقتصادية، وفي مقدّمتها دفع رواتب موظّفي الدولة، بذريعة ملاحقة الخونة من عملاء إسرائيل وأميركا إلى عملاء السعودية والإمارات.
محلّياً أيضاً، وإن في سياق صراعها مع خصومها المحلّيين، سعت جماعة الحوثي إلى تحريك جبهات استراتيجية للضغط على حلفائهم الإقليميين، وفي مقدّمتها السعودية، الطرف الرئيس والداعم لخصوم الجماعة.
بيد أنّ خيار الذهاب إلى الحرب أو على الأقلّ توسيع رقعتها الجغرافية غدا مكلفاً بالنسبة إلى الجماعة، وباللجوء إلى سردية استحقاقات "السلام" التي تعني في المقام الأول انتزاع مطالبها الاقتصادية، مثّل الخيار الآمن بالنسبة إليها في هذه المرحلة، وانعكس في ازدواجيتها، سواء على مستوى خطابات قياداتها السياسية أو تحرّكاتها الدبلوماسية، ما بين التصعيد والتهدئة،
وهو ما يكشف أزمتها السياسية، والأهم غياب استراتيجية واضحة للجماعة؛ إذ إنّ خسائرها الاقتصادية جراء حربها الإسنادية من تدمير إسرائيل مطار صنعاء الدولي وإغلاق ميناء مدينة الحديدة، إلى جانب أنها تحت طائلة العقوبات الأميركية،
وأيضاً إعادة فرض العقوبات الأممية على حليفها الإيراني، ضاعف من التحدّيات الاقتصادية التي تواجهها الجماعة، ممّا يتعدّى الضغط الداخلي والشعبي للإيفاء بالتزاماتها، إلى ضغط أجنحتها المتنافسة والمتصارعة على الموارد،
بحيث صعّدت خطابها السياسي ضدّ السعودية، بما في ذلك التهديد باستئناف هجماتها في أراضيها،
ومن جهة أخرى محاولة إقناعها، من خلال الوسطاء الإقليميين، بتنفيذ خريطة الطريق الأممية، أي الشقّ الاقتصادي الذي يشكّل أهميةً استراتيجيةً للجماعة بعيداً من مزاعمها في الامتثال للسلام.
بالنسبة لجماعة الحوثي، وبحسب تصريحات قياداتها البارزة، ليست مرحلة ما بعد الإسناد كما قبلها.
ومع أن هشاشة اتفاق وقف إطلاق النار في غزّة، وأيضاً تغوّل الكيان الإسرائيلي واستمرار غاراته العسكرية على لبنان وعلى سورية، تعني بقاء احتمالية تصعيد التوترات في المنطقة، أو على الأقلّ في جبهة فاعلة كاليمن، لأنها مسرح مواجهة غير محسوم بالنسبة إلى إسرائيل،
وهو ما تكشّف في تأكيد قياداتها بأن استهداف الجماعة سيظلّ خياراً قائماً، وهو ما يمكّن الجماعة من التعويل على استمرارية معركتها الإسنادية عاملَ استثمار محلّياً وإقليمياً، فإنّ التبعات الحالية لسياستها تعني رفع مستويات المخاطر، سواء بالنسبة إلى حربها المفتوحة ضدّ المنظّمات الدولية التي قد تدفع إلى تعليق عملها الإنساني (والأهم الإغاثي)، خصوصاً بعد إجلاء الأمم المتحدة موظّفيها في الأيام الماضية،
ومن ثمّ في ظلّ اتساع نطاقات الفقر في المناطق الخاضعة للجماعة، يعني مضاعفة التهديدات الإنسانية.
ومن جهة أخرى، وبعيداً من الخيار الذي ستتخذه فيما يخصّ حربها الداخلية، بما في ذلك آفاق المسار السياسي لحلّ الأزمة اليمنية، فإنّ الجماعة في موقع لا يمكّنها من الضغط على السعودية وفرض اشتراطاتها الاقتصادية بمعزل عن التوافقات الدولية والإقليمية في تحديد مستقبل غزّة، التي تحكم بالطبع الأزمة اليمنية،
ومن ثمّ فإنّ مطاردة الساحرات لا تعني سوى هروب من استحقاقاتها سلطةَ أمرٍ واقع.
* كاتبة وناشطة يمنية