
إيران وإسرائيل: تشابه المسارات وتباين الآليات
لم يكن ممكناً للمشاريع الاستراتيجية والطموحات الإقليمية لكل من إيران وإسرائيل أن تتقدم في المنطقة لو لم تجدا الأرضية المهيأة لذلك، التي سمحت لهما باستغلال غياب مشروع عربي وإسلامي واضح ومحدد الأهداف، وعملتا على ملء الفراغ الناتج من هذا الغياب.
هذه الحقيقة المرة لا بد من الاعتراف بها على المستويين العربي والإسلامي، من أجل استعادة المبادرة والعمل على بناء مشروع عربي استراتيجي يأخذ في أهدافه مبدأ العمل من أجل بناء نظام مصالح استراتيجي يكرس موقع هذه الدول على الخريطة الدولية والإقليمية، ويقف سداً أمام جهود ومساعي طهران وتل أبيب لإقامة مشروعاتهما الإقليمية على حساب مصالح ودور وموقع الدول العربية.
وإذا ما كان الصراع بين المشروع الإيراني والمشروع الإسرائيلي في الإقليم هو الأبرز والأكثر حضوراً في يوميات ومصائر المنطقة، فإنه من غير الإنصاف عدم الالتفات إلى مشروع آخر ثالث تسعى من خلاله تركيا إلى فرض شراكتها في تقاسم النفوذ والأدوار، ومحاولتها الدخول إلى نادي النفوذ الإقليمي، من خلال عملية القضم من نفوذ أو فرض شراكتها على منافسيها في تل أبيب وطهران،
امتداداً من الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وصولاً إلى القوقاز وآسيا الوسطى، أو ما يصطلح عليه في الأدبيات الجيوسياسية بمنطقة غرب آسيا.
مبكراً، انتبهت قيادة النظام في إيران إلى الصعوبات التي تواجه أي مشروع خارج حدودها ذي طابع استراتيجي، بغض النظر إذا ما كان هذا المشروع يقوم على الأسس الاستراتيجية نفسها التي اعتمدها وتبناها النظام السابق، وأن الخلاف العقائدي والمذهبي مع المحيط العربي قد يشكل عائقاً أمام تمدد نفوذها وبناء مشروعها الإقليمي،
وأن شعار تصدير الثورة الذي رفعته بعد انتصار ثورتها عاجز عن توفير هذه الأرضية، وبخاصة أنه تحول إلى اتهام لها بمحاولة التدخل في شؤون الدول الأخرى وزعزعة استقرارها.
وأمام وضوح الأسس المكونة للمشروع الإسرائيلي، سواء الدينية – التلمودية، أو السياسية – الصهيونية، كان لا بد لقيادة النظام من اللجوء إلى استخدام مكونات مشابهة إن جاز التعبير، تعتمد على البعد العقائدي، الذي يخدم البعد السياسي ويضع أسس مشروعها الإقليمي،
فكان الخيار بالذهاب إلى الأيديولوجيا وبناء متحدات على أسس مذهبية، أو ما يمكن الاصطلاح عليه بمتحدات جيو- مذهبية، تسمح لها باختراق المتحد القومي – العربي، وتفكيك موقفه الرافض لهذا النفوذ، ويربك منطق التعامل مع الطموحات الإيرانية باعتبارها جسماً غريباً يحاول النفاذ إلى داخله وزعزعة استقراره وضرب علاقات التعاقدات الاجتماعية والسياسية المؤسسة لهذه الدول.
استراتيجية الجيو – مذهبية التي تبنتها القيادة الإيرانية كبديل عن مشروع تصدير الثورة، تصاعدت وتيرتها بعد عام 1993.
وذلك تزامناً مع توقف مسار السلام العربي - الإسرائيلي الذي توقف عند محطة اتفاق "أوسلو" مع "منظمة التحرير" الفلسطينية.
وتبلورت الطموحات الإيرانية بصورة أكثر وضوحاً بعد عام 2003 والاحتلال الأميركي للعراق، الذي شكل الحلقة الأساس والباب الذي ساعد في تثبيت نفوذها الإقليمي،
وفي تعزيز ما سبق أن بدأته في علاقتها مع سوريا في عهد بشار الأسد، وتحول طهران إلى حاجة سورية بعدما كانت سوريا حاجة إيرانية،
إضافة إلى ما حققته من نجاح في تحويل "حزب الله" إلى لاعب مؤثر ومتحكم على الساحة اللبنانية، وجسر عبور نحو الداخل الفلسطيني.
بالتالي تحققت رؤية المؤسس الخميني الذي دعا بعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان واحتلال بيروت من أخطار المشروع الإسرائيلي وضرورة مواجهته.
لم يكن التوصيف الذي أطلقه العاهل الأردني الملك عبدالله الثاني بعد عام 2006 والحرب الإسرائيلية مع "حزب الله" في لبنان، وحذر فيه من "الهلال الشيعي"، لم يكن توصيفاً مفتعلاً، على رغم سعي طهران إلى نفيه ورفضه،
إلا أن الأسس التي قام عليها هذا التمدد الإيراني قام على مبدأ واضح أساسه أيديولوجي يخدم استراتيجية الجيو – مذهبية، بالتالي سمح لطهران في بناء "حلقة النار" لمحاصرة إسرائيل ووضعها في حال استنفار دائم للدفاع عن نفسها وتعطيل مشروعها في عقد اتفاقات سلام مع محيطها العربي – الإسلامي.
حلقة النار التي أسست لها طهران وتزعمها قائد قوة القدس في الحرس الثوري قاسم سليماني، وامتدت عبر العراق إلى سوريا ولبنان وصولاً إلى الداخل الفلسطيني مع حركتي "حماس" و"الجهاد"،
لم تكن لتكتمل من دون الحلقة اليمنية من خلال جماعة الحوثيين ودورها في الحصار الاقتصادي البحري على تل أبيب عبر البحر الأحمر وباب المندب، لأن استخدام طهران لورقة مضيق هرمز لا تخدم المصلحة الإيرانية،
بل إن إقفال هذا المضيق سيكون بمثابة انتحار اقتصادي باعتباره المنفذ الوحيد للنفط الإيراني نحو الأسواق العالمية، ولن يستخدم إلا في حالة واحدة هي سقوط كل الخيارات والمخارج أمام طهران.
وبعد أن استطاعت طهران تثبيت وجودها ونفوذها في هذه الدول، كان من الطبيعي أن يخرج محمود يونسي وزير الأمن السابق ومن بعده قاسم سليماني، للتباهي والقول إن إيران باتت تسيطر على أربع عواصم عربية.
وهو نفوذ وظفته بشكل كبير وواضح في عملية الدفاع عن النظام السوري على مدى 10 أعوام، قبل أن تخسر سوريا ويتعرض المحور الذي أقامته لضربات قاسية،
ويتراجع نفوذها بشكل كبير كنتيجة لعملية السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023 والحرب التي شهدها قطاع غزة بين حركة "حماس" وإسرائيل، وامتدت تداعياتها إلى لبنان بعد اغتيال أمين عام "حزب الله" حسن نصرالله وما تعرض له هذا الحزب من انتكاسة قاسية.
لقد اعتمدت طهران في توسيع نفوذها وبناء دورها الإقليمي على تحالفات مع جماعات وليس أنظمة. إذ إن النظام السوري بقيادة الأسد لا يخرج عن هذه القاعدة، خصوصاً بعد فشل جميع الجهود التي بذلت عربياً ودولياً لفك تحالفه مع إيران، مما حوله إلى نظام محاصر ومنبوذ، وصولاً إلى ارتمائه في الحضن الإيراني بالكامل بعد اندلاع الانتفاضة.
في المقابل، فإن الخصم الأساس لإيران والذي شكل الهاجس الأول لقيادته باعتباره العائق أمام تكريس وتثبيت نفوذها ودورها في الإقليم، أي إسرائيل، لم تجلس بانتظار ما ستقوم به طهران من خطوات،
بل عمل على بناء منظومته الإقليمية أيضاً، مستفيداً من شبكة عوامل ومصالح يتداخل فيها الأيديولوجي والسياسي والأمني والعسكري والاقتصادي والتكنولوجي، بهدف تفكيك المحور الإيراني والتخلص منه، وصولاً إلى القضاء على النظام القائم في إيران بما هو تهديد وجودي لها، مدعومة بمنظومة تحالفات دولية قوية على رأسها الولايات المتحدة الأميركية وعواصم القرار في أوروبا.
القيادة الإسرائيلية لم تكن بهذا الوضوح، كما هي عليه مع رئيس الوزراء الحالي بنيامين نتنياهو، عندما عدّ أن العدو الأساس لإسرائيل ومشروعها واستقرارها هو إيران ونظامها وامتداداته في الإقليم، خصوصاً في لبنان وفلسطين، وأن الحل الوحيد للتخلص من هذا التهديد يمر من طريق ضرب الأطراف وإضعافها ثم الانتقال إلى مرحلة قطع الرأس.
هذا التركيز الإسرائيلي على الخطر الإيراني، لم يتعارض مع الجهود التي كانت تبذل من أجل بناء تحالفات إسرائيلية - إقليمية وتحديداً مع الدول العربية، من خلال فتح مسار عقد اتفاقات سلام وإعادة تنشيط المسار الذي تعطل وتوقف عام 1993.
فاستطاعت وبرعاية ودور أميركي فاعل قاده الرئيس دونالد ترمب في رئاسته الأولى من توقيع اتفاقية السلام الإبراهيمي مع دولة الإمارات العربية المتحدة ومملكة البحرين والمملكة المغربية.
وكانت تضغط عبر الإدارة الأميركية لتوسيع هذه الاتفاقية، في الأقل باتجاه المملكة العربية السعودية باعتبارها زعيمة الدول العربية والمؤثر الأول في دول العالم الإسلامي، وأن اتفاق سلام مع الرياض سيفتح الباب أمام اتفاقات مماثلة مع مجموع هذه الدول، ومن ثم يفرض حصاراً وعزلة قاسية وقوية على النظام الإيراني.
التحول الذي أحدثته عملية "طوفان الأقصى" التي قامت بها "حماس" في العقيدة القتالية والأيديولوجية لإسرائيل كان كبيراً وواضحاً، ولم تعد حسابات الربح والخسارة كما كانت مع الجيل المؤسس للكيان،
خصوصاً في ما يتعلق بزمن الحرب وحجم الخسائر البشرية والحرب على أرض العدو. ولعل مرور سنتين على حرب غزة، تضاف إلى الحرب على لبنان التي استمرت نحو شهرين وما فيهما من خسائر، تشكل تعبيراً واضحاً على هذا التغيير. والذي حول هذه الحرب من حرب دورية من ضمن الحروب التي تخوضها تل أبيب، إلى حرب وجودية، وبمثابة تأسيس ثان للكيان.
والضربة التي تعرض لها "حزب الله" باغتيال أمينه العام، الذي وصفه نتنياهو بأنه "محور المحور" وصل صداها وحجم تداعياتها إلى دمشق قبل تل أبيب، ودفعت رأس النظام فيها للتفتيش عن خشبة خلاص تبعد عنه كأس السقوط،
إلا أن انعدام الثقة بينه وبين محيطه العربي، فضلاً عن تراجع الثقة بينه وبين حلفائه، لم يترك له خياراً سوى الهرب والخروج تحت جنح الليل إلى منفاه الروسي.
هذه التطورات الدراماتيكية على الساحة السورية وضعت تل أبيب أمام متغير جديد تمثل في انهيار النظام الذي التزم على مدى عقود باتفاقية الهدنة التي تضمن أمن الحدود مع سوريا، ولم يسمح بتحويل منطقة الجولان إلى مسرح عمليات للمحور الإيراني على رغم كونه جزءاً منه.
مما فرض على تل أبيب المبادرة لتولي هذه المهمة بنفسها، فدفعت بقواتها إلى عمق الأراضي السورية مسقطة اتفاقية الهدنة وخطها، ووصلت إلى مشارف العاصمة لتولي مهمة توفير أمنها بنفسها، انطلاقاً من عدم ثقتها بالسلطة الجديدة على رغم كل التطمينات الدولية والإقليمية.
وفي مقابل الاندفاعة التي هيمنت على الحكومة الإسرائيلية من أجل التسريع في توسيع الاتفاقية الإبراهيمية، عمدت إلى توسيع دائرة جبهات حروبها في الإقليم،
وكما عبر رئيسها، باتت تخوض حروباً على سبع جبهات، بهدف فرض السلام الذي تريده بالقوة، انسجاماً مع شعار "السلام بالقوة" الذي رفعه الرئيس الأميركي مع دخوله مرة ثانية إلى البيت الأبيض.
وهذه الجبهات لم تراع العلاقات القائمة بين تل أبيب وبعض العواصم التي تعرضت للاعتداء، كما حصل في العاصمة القطرية الدوحة، وصولاً إلى استهداف ناشطين دوليين على السواحل التونسية.
والأهم هو حرب الأيام الـ12 التي خاضتها ضد إيران، والتي شكلت تحولاً في المعادلات الاستراتيجية على المستويين الإقليمي والدولي، والتي لم تكن لتحصل لو لم ينهر النظام السوري ويتعرض "حزب الله" لضربات قاسية أسهمت في تحييده إلى حد كبير.
وتحاول تل أبيب استغلال حال الأحجام التي تعيشها إيران نتيجة الصدمة التي لحقت بها عسكرياً وأمنياً وسياسياً، وبعدها اقتصادياً مع إعادة تفعيل عقوبات مجلس الأمن الدولي، لمنعها من إعادة بناء قدراتها وترتيب أوراقها الإقليمية، يبدو أن القيادة الإسرائيلية أمام خيارات صعبة في المرحلة المقبلة.
فشروط التعايش مع المحيط، خصوصاً العربي، وإعادة تفعيل مسار الاتفاقية الإبراهيمية، لا يمكن أن تأتي من طريق التهديد العسكري، أو الفرض تحت حرب البنادق وهدير الطائرات، فالسلام الذي يسعى الإقليم لبنائه، لا وجود بين دوله لمهزوم ومنتصر،
وأن سلام القوة يعني أن إسرائيل لا تريد الاعتراف بالهواجس العربية والإقليمية وحتى الحقوق الفلسطينية والقرارات الدولية المرتبطة بحل الدولتين. مما سيعقد المشهد أمام الراعي الأميركي الذي يجهد لإنهاء الصراعات في المنطقة وبناء معادلة سلام واستقرار تسمح له بنقل تركيزه على مناطق أخرى في العالم تشكل تحدياً له ولمصالحه الاستراتيجية بمختلف مستوياتها.
لقد استغرقت طهران ثلاثة عقود لبناء قواعد نفوذها ودورها في الإقليم، وانهيار هذا النفوذ ومحوره أو تراجعه الكبير حصل بصورة سريعة. من هنا فإن الطموح الإسرائيلي في توسيع نفوذه واحتلال المساحات التي كانت مسرحاً للنفوذ الإيراني، قد تستغرق وقتاً وزمناً مماثلاً أو أقل،
إلا أن ذلك مشروط بمدى استجابة دول المنطقة وتعاونها في بناء هذا المسار القائم على السلام والاستقرار والاعتراف بالحقوق الطبيعية والمصالح الاستراتيجية لكل طرف.
وأن العداء مع إيران وحرب الوجود التي تخوضها تل أبيب، لا يعني الوقوع في الخطأ الذي ارتكبه الطرف الإيراني عندما لم يأخذ مصالح هذه الدول بعين الاعتبار، وتعامل مع المنطقة باعتبار اللاعب الأوحد على ساحاتها،
بخاصة أن تل أبيب، من خلال رئيس وزرائها وعديد من أعضاء الحكومة، لم تتردد في الحديث عن المشروع الاستراتيجي الطامح لبناء إسرائيل الكبرى التي تهدد سيادة ووجود عدد من الدول،
ومن ثم عززت حالة القلق والشكوك من النيات الإسرائيلية التوسعية التي لا تتلاقى مع شعار السلام، بخاصة لدى دول سبق أن عقدت معاهدات سلام معها كمصر والأردن.
وإضافة إلى مصالح الدول الإقليمية، فإن المصالح الأميركية في المنطقة قد تواجه تهديداً، في حال تمسكت تل أبيب في استراتيجيتها وتحولت إلى تهديد لمصالح واشنطن ودول المنطقة على حد سواء، مما قد يدفع واشنطن لإعادة النظر في تعاملها مع الطموحات الإسرائيلية بصورة مختلفة،
لا سيما إذا ما توهمت القيادة الإسرائيلية أنها استطاعت تغيير المعادلات التي تحكم علاقتها مع واشنطن، وأنها تحولت من كيان له دور وظيفي في المنطقة إلى شريك لها.
ولعل الكلام الذي قاله السفير الأميركي لدى تركيا ومبعوثه للأزمة اللبنانية والسورية توم براك كان واضحاً في توصيف علاقة واشنطن مع جميع الأطراف المتحالفة معها، وأن هذه التحالفات تنتهي وتتعطل عند حدود المصالح الأميركية، وإسرائيل ليست استثناء من ذلك.
ولعل ما حصل في الموقف الأميركي من اليمن، يشكل مؤشراً إلى تقديم المصالح الاستراتيجية الأميركية على المصالح الإسرائيلية، عندما قرر الرئيس ترمب عقد اتفاق يوقف بموجبه الهجمات المتبادلة بين أميركا والحوثيين في البحر الأحمر، مما ترك إسرائيل تواجه وحدها الضربات الصاروخية والحصار البحري للحوثيين.
حسن فحص
كاتب وصحفي لبناني