بعلبك اصطفتها الآلهة... ولن يقهــرها مغول العصر
هي المدينة التي تصنع الآلهة، بين معبدَي جوبيتير وباخوس، ونرى الشمس إذ تطلع، تموّج أشعتها فوق أحجارها، وتنجدل الريح على أدراجها بالقلب في صوت فيروز تخاطب القلب الذي يخفق في صدورنا للجمال والحق والحب «وملبّك بالحب ملبّك، وتروح وترجع عبعلبك». وهي الكرم والماء الزلال يخفق في برك رأس العين، والشجاعة والبأس عند أميرها المستضيف لأبناء عاملة، يرسل للجزار حدوات للخيل على عدد نقود الجزية المطلوبة، وهي العلم عند قسطا بن لوقا والشعر عند خليل مطران، ونغمة الجاز تنسكب من ساكسوفون مايلز دافيس في مهرجانها، فترقص الأسود النائمة في الحجارة. لكن المدينة التي تصنع الآلهة، لا بد من أن تزورها الشياطين.
وشيطان هذا الزمان طائرة حربية أو مسيّرة، ينطق باسمها كائن هلامي بغيض اسمه أفيخاي أدرعي، فينقضّ الشيطان على بيوت المدينة وأهلها وكل بيت فيها قلعة، وكل طفل فيها إله صغير يصير دمه خمراً في عرس الدم. ولأن الأغنية أجمل من القذيفة، والدم أقوى من السيف، وباخوس وجوبيتر قديمان قدم تلك الأعمدة الضاربة في التاريخ الذي نستعرضه بكل فصوله المشرقة، فإن الشيطان الذي يحمل أسماء أدرعي ونتنياهو وغالانت زائل لا محالة، وقلب العاشق والمتصوف والشاعر يطوف الدنيا، ولكن في نهاية المطاف «بيرجع عدراج بعلبك»
أصل التسمية
يؤكد المؤرخ الشيخ طه الولي في بحث له حول أصل تسمية بعلبك أنّ الإغريق ومثلهم الرومان دأبوا على صبغ البلاد التي يحتلونها بصبغتهم الأجنبية لكي يقطعوا ما بين أهل هذه البلاد وما بين ماضيهم من وشائج التاريخ القومي والتراث الوطني، «فلمّا اجتازوا بلادنا وأدخلوها في جملة ممتلكاتهم الإمبراطورية، عمدوا إلى تغيير أسماء مدنها من أصولها السامية أو السريانية إلى اللغة الإغريقية أو الرومانية. من ذلك مدينة بعلبك التي فرض عليها السلوقيون اسم «هليوبوليس» وهي لفظة إغريقية معناها «مدينة الشمس».
وقد فعل السلوقيون ذلك عندما جعلوا معبودهم «الشمس» قريناً لمعبود هذه البلاد آنذاك «بعل». وحينما استخلص العرب البلاد من الروم، أعادوا للمدينة اسمها السامي القديم وهو «بعلبك»، وهذا الاسم مركب من كلمتين «بعل» أي إله، و«بك» أي «صنم». يتابع الولي أنّ مؤرخي البلدان العرب يظنّون أنّ بعل المذكور هو الذي أشار إليه القرآن في الآية 125 من سورة الصافات التي تقول «أتدعون بعلاً وتذرون أحسن الخالقين»، ويستند إلى القرطبي في تفسيره لهذه الآية في «الجامع لأحكام القرآن»، إذ يختلف المفسرون حول البعل فتقول طائفة: البعل ها هنا الصنم.
وتقول طائفة البعل ها هنا ملك. أمّا وديع نقولا حنّا، فإنّه عندما أراد تفسير كلمة «بعلبك» في كتابه «قاموس لبنان» المطبوع في بيروت عام 1927، كتب: «وبعلبك اسم مركب من كلمتين بعل وبك، ومعناها بالفينيقية ربّ الوادي- أي وادي البقاع. وقيل «بل» مدينة البعل أي بيت الربّ وسماها اليونانيون هيليو بوليس، أي مدينة الشمس».
وفي كتاب «سورية اليوم» لمؤلفه لويس لورته، نجد أنّ «اسم بعلبك متأتٍ من بعل الأول، أقوى آلهة الفينيقيين وهو زيوس اليونان، وجوبيتر الرومان، وملكارت أو هرقل الصوريين. كان بعل يُعبد في شكل كوكب النهار، غير أنّ عبادته وهياكله لم تكن منتشرة إلّا في الجبلين المقدسين: لبنان ولبنان الشرقي. وبعلبك معناها هيكل بعل لأنّ كلمة بك أو باكي تعني البيت والمعبد».
في تدوينات الرحّالة
من أبرز الجغرافيين العرب الذين تحدثوا عن بعلبك في أعمالهم ياقوت الرومي والشهير أيضاً بالحموي. الجغرافي الذي عاش ما بين القرنين السادس والسابع للهجرة، أتى على ذكر بعلبك في كتابه الموسوعي «تقويم البلدان». وأشار إلى أن أمرأ القيس، أمير الشعراء العرب في الجاهلية شكا ما لقيه في هذه المدينة ولدى أهلها من جفاء وتنكّر ممّا جعله يقول في بعض أشعاره: «لقد أنكرتني بعلبك وأهلها/ ولابن خريج في قرى حمص إنکرا».
وممّا لفت نظر هذا البلداني في بعلبك، اشتهارها بالدبس والزيت واللبن والجبن. وقال في هذه الأخيرة: ليس في الدنيا مثلها يضرب بها المثل. وبعد أكثر من قرن، مرّ ابن بطوطة، الرحّالة المغربي في مدينة بعلبك فوجد فيها من الطيبات ما وجد ياقوت وزيادة، فلمّا دوّن رحلته المسماة «تحفة النظّار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار»، أعرب عن إعجابه بمدينة بعلبك، قائلاً: «هي حسنة من أطيب مدن الشام تحدق بها البساتين الشريفة والجنات المنيفة وتخترق أرضها الأنهار الجارية وتضاهي دمشق في خيراتها المتناهية وبها من حبّ الملوك ما ليس في سواها ».
كما ينقل الرحالة الأشهر إلى أهل زمانه والذين سيأتون من بعده وصفاً لطعام المدينة ونكهة فاكهتها، وما أثار إعجابه من جودة صناعتها في حياكة المنسوجات وإعداد أواني الطعام من صحاف وملاعق ودسوت. وأسهب في وصف هذه «الخصائص البعلبكية»: «وبها يصنع الدّبس المنسوب إليها، وهو نوع من الرب يصنعونه من العنب وله تربة يضعونها فيه، فيجمد وتكسر القلة التي يكون بها، فيبقى قطعة واحدة، وتصنع منه الطواء، ويجعل فيها الفستق واللوز، ويسمّون حلواه بالملبن.
وهي كثيرة الألبان وتجلب منها إلى دمشق وبينهما مسافة للمجد، ويصنع ببعلبك الثياب المنسوبة إليها من الأحرام وغيره. ويصنع بها أواني الخشب والملاعق التي لا نظير لها في البلاد، وهم يسمّون الصحاف بالدسوت، ولربما صنعوا الصحفة وصنعوا صحفة أخرى تسع في جوفها وأخرى في جوفها إلى أن يبلغوا العشر، فيخيل لرائيها أنها صحفة واحدة، ويصنعون لها غشاء من جلد، ويمسكها الرجل في حزامه وإذا حضر طعاماً مع أصحابه، أخرج ذلك فيظن رائيها أنها ملعقة واحدة، ثم يخرج من جوفها تسعاً».
الماء جارٍ في ديارها
وبعد ابن بطوطة، قدم القلقشندي بعلبك إلى قرّاء كتابه «صبح الأعشى في صناعة الإنشاء» عبر ما كتبه عنها الجغرافي الدمشقي ابن فضل العمري من أهل القرن الثامن الهجري الرابع عشر الميلادي في كتابه «مسالك الأبصار في ممالك الأمصار»: «هي مختصرة من دمشق في كمال محاسنها وحسن بنائها وتربيتها، بها المساجد والمدارس والربط والخوانق والزوايا والبيمارستان والأسواق الحسنة، والماء جار في ديارها وأسواقها». وبعدما حدثنا ابن فضل العمري عن قلعة بعلبك وما تركه فيها ملوك الدولة الأيّوبية من آثار ملوكية جليلة، يتابع في وصف بعلبك: «ويحف بذلك غوطة عظيمة أنيقة ذات بساتين مشتبكة بالأشجار بها الثمار الفائقة والفواكه المختلفة». كما أنّ مؤرخ دمشق العلامة محمد كرد علي أفرد فصلاً كاملاً لبعلبك في موسوعته القيّمة «خطط الشام».
مشاهدات متصوف
قام الشيخ عبد الغني النابلسي (1641 ــــ1731 م) عندما كان في الخمسين من عمره برحلة إلى وادي البقاع في لبنان، وكانت بعلبك واسطة عقد هذه الرحلة. وعلى عادته في جميع رحلاته عبر الشرق العربي، فإن هذا الشيخ المتصوّف الرحالة دوّن مشاهداته سواء في وادي البقاع أو في مدينة بعلبك وجعل عنوان هذه المدونة «رحلة الذهب الابريز في رحلة بعلبك والبقاع العزيز». ويقول الذين تحدثوا أو كتبوا عن هذه الرحلة أنّ بعلبك مدينة قديمة مشهورة. ورد ذكرها كثيراً في كتب الجغرافيين المسلمين،
ولكن لم يصف أحد منهم القلعة التي اشتهرت بها هذه المدينة بالتفصيل والدقة كما وصفها النابلسي: «وقد قصدنا التفرّج على قلعة بعلبك العجيبة التي تذكرنا بأبراجها السماء ذات البروج، من حسن تلك الأبنية الفريدة... حتى صعدنا إلى ذلك البناء الهائل الذي هو أثر من آثار الأوائل». ثم نقل النابلسي ما كتبه الهروي في كتابه: «وقلعة بعلبك من عجائب الدنيا وليس في بلاد الإسلام ما يشاكلها إلا أبنية خراب بناحية اصطخر من بلاد فارس، ويزعم أهل فارس أنّ الضحاك هو سليمان بن داود عليهما السلام، وهذه الأبنية عمرتها الجن له. والله أعلم». ثم يعقب النابلسي على كلام الهروي، متابعاً كلامه عن القلعة البعلبكية: «وبلغنا أنّ الجن عمرت لسليمان عليه السلام بيت المقدس، وبلدة بعلبك مـع قلعتها، وهذا أمر ظاهر يشهد له الحسّ، فإن هذه العمارات العظيمة لا تقدر على عملها الإنس...
فإنا رأينا تلك الأبنية الهائلة في قلعة بعلبك، وتلك المحاريب المزخرفة والتماثيل المختلفة والأعمدة العظام، والصخور الجسام، فقلنا إنّ هذه الآية ربما أشارت إلى هذه الأبنية التي تتحير فيها الأفهام وتشخص إليها عيون الأنام».
وعندما فرغ من وصف القلعة، أحبّ أن يطمئن قارئه إلى الحرص على التجرد والدقة والموضوعية في ما كتبه من هذا الوصف، فأردف: «وبالجملة فإنها قلعة عظيمة، وأبنيتها عجيبة غريبة تدل على أنها آثار قديمة. ووصفنا لها هذا كان بعضه بالمعاينة وبعضه بالإخبار ممن كانت بلاده بعلبك وتكرر له الدخول فيها من صغره إلى كبره. وله بها معرفة تامة من الثقات الأخيار وقد قلنا في ذلك على حسب ما هنالك: إن في بعلبك شيئاً فريداً/ وعن النوع خارجاً والجنس/ قلعة قال كل من قد رآها/ ليس هذا البناء بناء الإنس »
(المصدر: الشيخ طه الولي: «بعلبك مدينة الشمس، ثامنة عجائب الدنيا»، مجلة «المقاصد »، العدد 37، 1985).
علماء وشعراء ومتصوّفة
ظلّت الثقافة الإغريقية متوارثة لدى أهل المدينة، ولا سيما النصارى منهم وتجلّت إبداعاً مع قسطا بن لوقا الذي نقل إلى العربية عشرات المصنّفات اليونانية في الرياضيات والفيزياء والفلك والفلسفة. وفي القرن الثاني الهجري، شهدت بعلبك حركة تصوّف إسلامية مهمة رصد تطورها أحمد بن الطيب السرخسي (833-899م)، ويعود الفضل إليه في استقصاء الألفاظ التي تصلح لتسمية أتباع زينون تسمية عربية، فقد سمّاهم تارة «أصحاب الرواق» أو «الرواقيين»، وكلمة رواق في العربية تعني الممشى أو الدهليز، وكلمة الأسطوان لها المدلول نفسه، وربما اختيرت الأسطوان لتسمية مدرسة بعلبك لأنّ مركز هؤلاء المتصوفة العارفين، كان في الجامع الكبير حيث العمد الطويلة الأسطوانية مزروعة في أنحاء المسجد، وعندها توزّع الدعاة وحولهم التفّ المريدون.
وهذه الحركة الصوفية فرزت رجالاً من بعلبك اتّزروا برداء القدسية، وغدت أضرحتهم تُزار للتبرك، والتفّ حولهم أتباع تعصّبوا لهم أمثال الشيخ عدي بن مسافر إمام اليزيديين، والشيخ عبد الله اليونيني الحنبلي. وظل رجال في بعلبك يتوارثون التصوف على اختلاف مراتبه، فعمّ أقطاب وأبدال حتى القرن العشرين. وبلغ التطور العلمي أوجه في القرن الثامن الهجري، إذ ترجم ابن حجر العسقلاني لأكثر من ماية وستين علماً من بعلبك خلال قرن واحد، ضمنهم أكثر من عشر نساء عالمات. كما أنّ المدينة شهدت نهضة تعليمية منذ القرن الثاني للهجرة قادتها مساجد المدينة ومدارسها (النجمية، والنورية، والأمينية، والحنبلية).
وفي القرن الماضي، كان أبرز أدباء بعلبك «شاعر القطرين»، خليل مطران الذي تفتّحت قريحته في ربوع مدينة الشمس، وبدأ بكتابة الشعر في المدرسة الشرقية في زحلة حيث أنهى علومه الابتدائية ثم انتقل إلى بيروت، ودخل المدرسة البطركية للروم الكاثوليك وأتمّ علومه الثانوية. تمكّن مطران من اللغة الفرنسية وكذلك العربية وآدابها على يد الشيخين خليل وإبراهيم اليازجي، وكان يعرض قصائده على الأخير الذي أكسبه طريقته في التدقيق اللغوي والمحافظة على سلامة الصياغة وجزالة اللغة وقوة المعنى. تشبّع مطران بالنقمة على الاستبداد العثماني، ونادى مثل أستاذه اليازجي بتحرير الوطن العربي. وبعد فترة دراسة للأدب في باريس انتقل مطران إلى مصر، حيث عمل كمحرر في جريدة «الأهرام» لعدد من السنوات، ثم أنشأ «المجلة المصرية» ومن بعدها جريدة «الجوانب المصرية» اليومية التي عمل فيها على مناصرة مصطفى كامل باشا في حركته الوطنية، واستمر إصدارها على مدار أربع سنوات، وانتخب عام 1934 رئيساً للفرقة القومية للتمثيل، وحاول أن يعرف أبناء جلدته في المسرح الغربي فترجم مسرحيات شكسبير أمثال «ماكبث» و«عطيل» و«هاملت» و«تاجر البندقية»، وشجّع أساطين الأدب على ترجمة المسرحيات وتأليفها وتمثيلها. كما بذل جهوداً جبّارة للنهوض بالمسرح المصري حتى وفاته عام 1949 حيث ترك ديواناً شعرياً فذّاً سمّاه «ديوان الخليل» ويقع في أربعة أجزاء.
المدرسة النورية
أنشأها في بعلبك نور الدين محمود ابن الأتابك زنكي، وأغفلت المصادر سنة تأسيسها. لعلّه أمر ببنائها عام 1157 م لمّا زار بعلبك لتفقّد أحوالها وتقرير أمر المستحفظين لها. وكان نور الدين محبّاً للعلم، فأسّس المدارس في دمشق وبعلبك وحمص وحماه ومنبج، وعرفت كلها باسمه «النورية» وجعل الإشراف عليها لقاضي القضاة (الشافعي)، شرف الدين عبد الله بن محمد بن عصرون التميمي وفوّض إليه أن يولي التدريس فيها من يشاء.
ويبدو أنّ بني عصرون ظلوا أكثر من قرن يتوارثون الإشراف على أوقاف المدرسة النورية في بعلبك. ما زالت آثار المدرسة النورية قائمة الى اليوم، ملاصقة للمسجد الكبير شرق هياكل بعلبك. ولها ثلاثة أبواب تفضي إلى المسجد من جهته الشرقية، ومساحتها 420 متراً مربعاً ضمّت بضع غرف للطلاب والمشايخ وباحة للدرس تتوسطها بركة ماء طولها خمسة أمتار وعرضها أربعة وعلى زواياها أربعة أعمدة مضلّعة، ويتصدّرها محراب نقلت بعض حجارته من الهياكل المجاورة.
حظيت المدرسة النورية بأوقاف غنيّة في بعلبك ونواحيها وأضاف إليها بنو عصرون أوقاف مزرعتين كانتا ملحقتين بنورية دمشق (بدير النيط)، على بعد عشرة كيلومترات من بعلبك. عرفت المدرسة النورية انفتاحاً على كل المذاهب الإسلامية، فعلى الرغم من سيادة الفقه الشافعي في منهجها الدراسي، فقد دَرَّس فيها فقيه الإمامية المعروف بالشهيد الثاني (1505-1559م) زين الدين بن العاملي الجبعي، الذي كان قد ارتحل في شبابه إلى إسطنبول، وكتب هناك رسالة في عشرة مباحث من عشرة علوم أوصلها إلى القاضي محمد بن محمد قاضي زادة، فوقفت منه موقفاً حسناً، ثم فوّض عليه دفتر تسجيل المدارس يختار منها ما شاء، فاختار المدرسة النورية في بعلبك وأخذ يدرّس في المذاهب الخمسة واشتهر أمره، وصار مرجعاً للأنام وفقيهاً لكل طائفة بما يوافق مذهبها.
بين مدينة الشمس وجبل عامل (1804 م)
استقبل حكّام بعلبك الحرافشة زعماء جبل عامل وعلماءه بحفاوة، وأكرموا وفادتهم، وذادوا عنهم أذى الجزار أثناء حملته التي اجتاح فيها قراهم وجعل من مكتباتهم حطباً لأفران عكا. ورد في مجلة «العرفان » مقال للشيخ سليمان ظاهر: «إن من الأسر العاملية الوجيهة التي فرت من مظالم الجزّار، بعد مقتل الشيخ ناصيف النصّار، أسرة الحر، فنزحت من بلدها جباع قاعدة إقليم التفاح من أعمال صيدا إلى مدينة بعلبك، معتصمةً بحماية أمرائها الحرافشة. وكان كبير هذه الأسرة في ذلك الحين من العلماء الأعلام الشيخ عبد السلام، وكان من عطف أولئك الأمراء عليهم في موطنهم الجديد ورعايتهم لهم ما أنساهم موطنهم القديم، فأمنوا سطوة الجزار الجبار».
وجود هذه الأسر العلمية في بلاد بعلبك أزعج الجزار فدخلتها جيوشه مرة، ثم طرد منها، وقام بمحاولات فاشلة بعد ذلك لدخولها وصمدت أمامه بفضل شجاعة أميرها جهجاه الحرفوش، الذي أرسل إلى الجزار أكياساً مملوءة بنعال الخيل الحديدية جواباً على طلب الأموال الأميرية. وعاد الجزّار رغم عتوّه يصدر مرسوماً ببذل الأمان لعلماء آل الحر الموجودين في بعلبك الذين طالت إقامتهم فيها، ومن العلماء الذين أمّوا عاصمة الحرافشة السيد محمد الأمين الأول جدّ المرجع الديني السيد محسن الأمين.
المهرجانات الدولية
يرجع الباحث كمال ديب فكرة «مهرجانات بعلبك الدولية » إلى بداية عقد الخمسينيات حين اقترحت شركة فرنسية للمسرح في باريس أن تُعاد تجربة عرض مسرحي في بعلبك بتمويل فرنسي. وجد الاقتراح آذاناً صاغية في بيروت. ثم كلّف الرئيس اللبناني كميل شمعون لجنة من سيدات المجتمع مثل سلوى السعيد ومي عريضة وإيميه كتانة وسعاد نجار وبرئاسة زوجته زلفا شمعون، وجرى الاتفاق أنّه ينبغي للجنة أن تقدّم خلال ستة أشهر من تأسيسها برنامجاً يتضمن مسرحية فرنسية وأخرى إنكليزية وفرقة أوركسترا سيمفونية من ألمانيا.
وقد نال عرض «هاملت» و«الليلة الثانية عشرة» لشكسبير إعجاباً لافتاً. وهكذا تكلل المهرجان بنجاح باهر ولو ببرنامج غربي كامل. بعد أزمة السويس عام 1956، برزت فكرة أن يتضمن برنامج المهرجان عملاً فولكلوريّاً باللغة العربية. راقت هذه الإضافة لكثيرين من مثقفي القومية اللبنانية أمثال سعيد عقل، وفؤاد افرام البستاني وغيرهما. تلقفت لجنة الفولكلور في المهرجان الفكرة، لكنها سرعان ما اكتشفت أن الرقص الشعبي وحده لا يصنع فولكلوراً، وكان لا بد من قصة وسيناريو وغناء وموسيقى ليكتمل المشهد الفولكلوري.
ومن هنا كان الجمع عام 1957 بين الأخوين رحباني وفيروز من جهة، والأخوة جرّار أصحاب الخبرة الروسية في الرقص، والفنان وديع الصافي وصبري الشريف ووديع بولس «ليصبح الجميع فريقاً يقدّم الفقرة الفولكلورية في المهرجان تحت عنوان الليالي اللبنانية» كما يضيف ديب.
وفي تلك الليالي الأولى، سطع نجم الفنان زكي ناصيف الذي قدّم أغنيتي «يا لالا عيني لالا» وكذلك «طلوا حبابنا طلوا» بأصوات الكورس، واللتين كانتا أول محاولة لتصميم دبكة مربعة الوزن تتواءم مع خطوات الراقصين، وتتبدل في سرعتها لتنويع أشكال الخطوات وتحريك الراقصين على المسرح. وقد شكّلت «مهرجانات بعلبك» المدخل لاهتمام زكي ناصيف بالفولكلور، وتميزت مقاربته بإطالة الجملة اللحنية وتركيز قالب الدبكة الموسيقي. كما تميزت ببناء ألحان جديدة على إيقاعات متعددة مأخوذة من التراث الشعبي (الدلعونا، والغزيل، والقرادي، والأهازيج...) أو من الإيقاعات المرتبطة بالموشحات مثل الإيقاع المصمودي، وكتابة الألحان الشعبية وأصوات الآلات الشعبية كالمجوز والمنجيرة أوركسترالياً استناداً إلى قواعد الموسيقى الكلاسيكية الأوروبية.
وفي السنوات التالية، تضمّن برنامج المهرجانات أشهر الأسماء في عالم الفن، من أوركسترا نيويورك الفيلهارمونية عام 1959 إلى فرقة الباليه الملكية الإنكليزية عامَي 1961 و1964 وأوبرا باريس عام 1962 وباليه البولشوي الروسية وعازف الجاز الأميركي مايلز دافيس عام 1971. كما قدّم المهرجان أم كلثوم، وموريس بيجار، وجان لوي بارو، ومارغو فونتين، وسفياتوسلاف ريختر، وهربرت فون كارايان، وإيللا فيتزجيرالد، وديزي غليسبي حتى فاق مهرجان بعلبك أي مهرجان آخَر في العالم العربي.
(المصدر: كمال ديب ـــ «تاريخ لبنان الثقافي » ــ المكتبة الشرقية ــ 2016).
أنقذوا ذاكرة العالم
تهدّد غارات العدو الصهيوني مدينة بعلبك التاريخية، البالغ عمرها 3000 عام، والمدرجة ضمن قائمة التراث العالمي لمنظمة اليونسكو. وكانت غارات سابقة طالت محيط قلعة بعلبك الأثرية، وقبة «دورس» في قرية دورس، في قضاء بعلبك، وهي قبة بُنيت باستخدام مواد رومانية متهدمة خلال العصر الأيوبي. وقد تضررت أعمدة هذا المبنى التاريخي، الذي شُيّد في القرن الثالث عشر، وبدأت الحجارة تتساقط تحت وطأة الغارات الإسرائيلية العنيفة.
وعليه، وبعد تهديد المتحدث باسم «جيش» الاحتلال سكّان مدينة بعلبك، وجهت «لجنة مهرجانات بعلبك الدوليّة» رسالة مفتوحة إلى «جميع رؤساء البعثات الديبلوماسيّة، والمنظمات الدوليّة، والمختصّين في حماية التراث، وكل الجهات المؤثرة في العالم»، تدعوهم فيها إلى «التحرّك السريع لوقف الاعتداءات المتكررة على مدينة بعلبك وموقِعها الأثري، المسجل على قائمة مواقع التراث العالمي لمنظّمة اليونسكو منذ عام 1984».
وأكدت اللجنة في رسالتها أنّ الاعتداءات الصهيونية طالت «مُحيط قلعة بعلبك الأثريّة، ما أسفَر عن أضرار مباشرة لأحد معالمها المعروف بـ «ثكنة غورو»، بالإضافة إلى الأضرار غير المباشرة الناتجة من الدخان الأسود والانفجارات التي أثّرت في الأحجار القديمة وتسبّبت في تصدعات في الهياكل الهشّة». وتابعت أنّ هذه الاعتداءات «تمثّل انتهاكاً صارخاً للقوانين والأعراف الدوليّة، بما في ذلك اتفاقيّة التراث العالمي لعام 1972 واتفاقيّة لاهاي لعام 1954 حول حماية التراث في مناطق النزاعات».
وفي الرسالة، ذكّرت اللجنة بأنّ «تاريخ بعلبك يعود إلى أكثر من 11 ألف عام، إذ يحتوي موقعها على آثار فينيقيّة ورومانيّة وعربيّة، وتُعتبر هياكلها ومعابدها الرومانيّة من الأكبر والأكثر حفظاً في العالم. كما أنّها تجسّد أجمل ما اختزنه العالم القديم من ثروات نتيجة التبادل الثقافي والتجاري والحضاري، وقد اجتمعت كلّ هذه الثروات في هذا الموقع الذي بات رمزاً للتراث الإنساني المشترك».
وأشارت الرسالة إلى أنّه «بعد عام، ستحتفل اللجنة بالذكرى الخامسة والسبعين لـ «مهرجانات بعلبك الدوليّة»، التي استضافت فنانين من مختلف أنحاء العالم، وشهدت ولادة ليالي الفولكلور اللبناني. لقد عملنا بالتعاون مع المجتمع المحلي على المحافظة على هذا الموقِع مساحةً تتفاعل فيها قيَم الانفتاح والتعاون والفرح عبر الفنّ ولغتِه الإنسانيّة».
وختمت الرسالة «تستحق بعلبك اهتمام العالم بأسره، كيلا تغرق «مدينة الشمس» في الظلام، وتبقى شعاع أمل يضيء جمالاً. فلنحافظ سويّاً على بعلبك، ونحمي التراث العالمي».
وفي السياق نفسه، سبق أن وجّهت مجموعة «عاملون وعاملات في الثقافة والفن» رسالة إلى اليونيسكو وقادة العالم والمجتمع الدولي، تدعو فيها إلى «حماية المعالم الثقافيّة والمدن التاريخيّة في لبنان، بما في ذلك مدينة بعلبك الأثرية ومدينة صور الفينيقيّة ومواقع صيدا التاريخيّة والتراث الثقافي الحيوي في بيروت وطرابلس». وحتّى الآن، وقّع على البيان أكثر من 1764 فرداً.
محمد ناصر الدين